في الظروف العادية، لا تستغرق المسافة من مبنى مجلس النواب اللبناني إلى القصر الرئاسي الفارغ أكثر من عشرين دقيقة. لكن بعدما فشل السياسيون في التوصل إلى إجماع حول انتخاب رئيس وإنهاء الشغور في المنصب، يمكن القول بأن الرحلة استغرقت أكثر من سنتَين وخمسة أشهر – حتى تاريخه. فلبنان من دون رئيس للجمهورية منذ 24 أيار/مايو 2014، ما ترك تداعيات على مختلف جوانب الحياة السياسية في البلاد.
تحوّل رئيس الوزراء والحكومة إلى هيئة لتصريف الأعمال، في حين أقدم مجلس النواب – بسبب غياب التوافق – على التمديد لنفسه مرتَين. وكان على البلاد أن تستمر، خلال العامَين الماضيين، مع الحد الأدنى من السياسات فيما يبلغ التوتر السياسي أقصى مستوياته. بيد أنه كان واضحاً أن الأفرقاء السياسيين يحرصون على عدم خروج الأمور عن السيطرة.
يُتوقَّع أن تحطّ هذه الرحلة الطويلة رحالها في 31 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، في نهايةٍ قد تشهد انتخاب قائد الجيش الأسبق، ميشال عون، الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية لولاية من ست سنوات.
لقد تمكّن عون، وهو حليف "حزب الله" وإيران وزعيم الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان اللبناني، من الحصول على دعم سعد الحريري، الحليف المقرّب من السعودية وزعيم "تيار المستقبل"، وذلك بعد اجتماعات طويلة بين مستشارين لكلا الطرفَين أفضت إلى التوصل إلى اتفاق بتكليف الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية في السنوات الست القادمة مقابل دعمه لعون.
لقد أثارت خطوة الحريري سجالاً في أوساط تياره السياسي وقاعدته الشعبية، ما دفع بالعديد من نوّاب كتلته البرلمانية إلى الإعلان على الملأ بأنهم يعارضون قرار زعيمهم، وبأنهم لن يصوّتوا لعون.
في الواقع، أثار قرار الحريري تساؤلات عدة على الساحة السياسية اللبنانية، أبرزها ما الذي يمكن أن يدفع بحليفٍ للسعودية إلى منح مثل هذا النصر إلى حليفٍ لإيران في حين أن الدولتَين تخوضان حرباً ضروساً في مختلف أنحاء المنطقة يُدفَع ثمنها بالنفط والدماء. لقد رفض النواب المعترضون على قرار الحريري التعليق رداً على طلب "المونيتور".
قال النائب عمار حوري من "تيار المستقبل" لموقع "المونيتور": "موقفي واضح، لكنني لا أرغب في الخوض أكثر في هذه المسألة".
وقد رفض محمد قباني الذي هو أيضاً عضو في كتلة "المستقبل" النيابية، التعليق، في حين لم يجب النواب الآخرون على هواتفهم الجوّالة أو أن خطوطهم كانت مقفلة.
قال الديبلوماسي السعودي السابق، عبدالله الشمري لموقع "المونيتور": "يمكن وصف قرار الحريري الأخير بأنه نوع من المغامرة السياسية".
وأشار إلى أن ما جرى هو "من تداعيات التغيير في العلاقات مع السعودية، لا سيما في ظل القيادة الجديدة التي تتعامل مع لبنان بطريقة عقلانية وليس بأسلوب عاطفي"، مضيفاً: "لعله أمر جيد للحريري. حان الوقت كي يأخذ قراراته بنفسه بعد كل هذه السنين من الإدمان على المال السعودي وملازمته قصره في الرياض؛ لقد حان الوقت ليكتسب القوة ويعود إلى قاعدته الشعبية".
المقصود من كلام الديبلوماسي السعودي السابق هو الأزمة المالية التي يواجهها الحريري، ومحاولات إقناع العائلة المالكة السعودية بانتشاله من هذه الأزمة. لقد تخلّفت شركة "سعودي أوجيه" التي تُعتبَر الشركة الأساسية المملوكة من الحريري، عن تسديد رواتب موظفيها طوال أشهر، بسبب تعرّضها لانتكاسات مالية شديدة تحت تأثير الوضع الاقتصادي في السعودية وتوتّر العلاقة الشخصية بين الحريري وولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف.
ولفت الشمري إلى أن الحريري قد يتعرّض للضغوط خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة، قائلاً: "لكن إذا كان القرار في يده وأظهر مرونة في التعاطي مع الأمور، يمكن أن تُستأنَف علاقاته مع الرياض بصورة تدريجية وفقاً لقواعد وإجراءات ومصالح جديدة – هذا مع العلم بأن السعودية ستقف دائماً إلى جانب لبنان بغض النظر عن الظروف".
بالفعل، كان قرار الحريري مغامرة سياسية نظراً إلى الظروف المحيطة به. فقد منح، عن سابق تصور وتصميم، دعمه لمرشح "حزب الله"، فقدّم بالتالي لخصومه نصراً علنياً واضحاً، ناهيك عن تعزيز شعبيتهم في أوساط المسيحيين. لكن السؤال الأساسي المطروح هو، هل كانت لدى الحريري خيارات أخرى؟
لقد وجد رئيس الوزراء السابق نفسه عند مفترق طرق – فإما يقوم بمغامرة سياسية يضع فيها كل رهاناته، وإما يُبقي على الوضع القائم بانتظار أن تتغيّر الأوضاع في المنطقة. لقد شعر الحريري برهبة الموقف إبان العديد من التطورات الخطيرة منها الانتخابات البلدية في أيار/مايو الماضي.
أظهرت نتائج تلك الانتخابات، لا سيما في طرابلس، تراجع شعبية الحريري أمام منافِسين جدد من داخل تياره السياسي. فقد تمكّنت اللائحة المدعومة من وزير العدل المستقيل، أشرف ريفي – وهو من الصقور، ويربط نفسه بـ"الحريرية" وليس بسعد الحريري – من هزم جميع التيارات السياسية التي تحالفت في لائحة واحدة في طرابلس.
غداة إعلان الحريري دعمه ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، نزل ريفي إلى الشارع في 23 تشرين الأول/أكتوبر مع المئات من أنصاره، وتعهّد بإطلاق معارضة سلمية من أجل قطع الطريق أمام انتخاب عون. وقد أبدى ريفي رفضه التام لعون أو أي مرشح آخر مدعوم من إيران.
إذا لم يُكلَّف الحريري رئاسة الوزراء ولم يجدّد روابطه مع قاعدته الشعبية، قد يُقضى على مستقبله السياسي – لذلك كانت هناك حاجة إلى صدمة ما. لم يكن مهماً إذا كانت هذه الصدمة إيجابية أم سلبية؛ الأهم كان تحقيق خرق في الوضع القائم وفتح صفحة جديدة. يعتبر المعارضون داخل تيار الحريري أنها صفحة قاتمة؛ لكن قد لا يكون ذلك صحيحاً، إذا وضعنا جانباً التأثير السياسي لانتخاب عون.
فمن شأن حكومة الحريري أن تتمتع بالدعم من خصمه اللدود، أمين عام "حزب الله"، حسن نصرالله، الذي قال في 23 تشرين الأول/أكتوبر إنه يقدّم "تضحية كبيرة" بقبوله تكليف الحريري رئاسة الوزراء في السنوات الست المقبلة.
في لبنان، يُعتبَر منصب رئيس الوزراء الأكثر فاعلية ونفوذاً منذ توقيع اتفاق الطائف في العام 1989، والذي وضع حداً للحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. أما صلاحيات رئيس الجمهورية فمحدودة؛ إنه بمثابة أبٍ للدولة أكثر منه قائد لها. على ضوء هذه المعطيات، قد يتمكّن الحريري من تحويل مشكلاته الكثيرة إلى فرصة نادرة. فبعدما أصبح من دون رعاية إقليمية (السعودية)، سيتعامل السياسي الشاب من تلقاء نفسه مع خصومه من دون أي أعباء على كاهله. صحيح أنه سيكون عليه أحياناً أن يراعي الاعتبارات الإقليمية في قراراته، لكنه سيتمتع بمرونة كافية لبناء رصيدٍ يُظهره في صورة رجل الدولة العصامي والمتمرس.
لن يكون الحريري الوحيد الذي سيتمتع بالمرونة، بل سيتحلّى بها أيضاً حلفاؤه في السعودية. اعتبر الشمري أن أحد إخفاقات السياسة السعودية في لبنان تمثّل في وضع جميع الرهانات في سلّة الحريري، مضيفاً أن المملكة ارتكبت "خطأً بإقامتها علاقات حصراً مع تيار المستقبل وتهميش جميع التيارات الأخرى. ينبغي على الرياض أن تعمل الآن على إنعاش علاقاتها مع التيارات السنّية الأخرى، وكذلك التيارات المسيحية، وحتى الشيعية. فهذا يصب في مصلحة الجميع، في لبنان والسعودية على السواء".