بعد تنفيذ حكم الإعدام برجل الدين الشيعيّ السعوديّ الشيخ نمر باقر النمر، صدرت بيانات عزاء واحتجاج من قبل الشخصيّات الشيعيّة في مختلف أنحاء العالم. من بين كلّ المواقف التي انعكست في هذه البيانات، ظهر واضحاً وجود فرق بين ما صدر عن مرشد الثورة الإيرانيّة علي الخامنئي وزعيم حوزة النجف علي السيستاني.
لم تكتف تصريحات الخامنئي بتاريخ 3 كانون الثاني 2016 بالتنديد بإعدام النمر وتوجيه أصابع الاتّهام إلى النظام السعوديّ، بل هدّدت هذا النظام، قائلة: "سيترك دم هذا الشهيد المظلوم أثره بلا شكّ، وستقبض يدّ الثأر الإلهيّة على رقبة الساسة السعوديّين لما قاموا به في حقّه". على عكس هذه التصريحات، لم يتهجّم السيستاني على النظام السعوديّ، وركّز بيانه على التضامن مع أهالي المعدومين (47 شخص، معظمهم من السنة وينتمون للقاعدة منهم أربع شيعة، بما في ذلك شيخ نمر النمر: "إنّنا إذ ندين ونستنكر ذلك (قتل الشيخ النمر ومرافقيه)، نعزّيكم ونواسيكم ولا سيّما العوائل المفجوعة بأبنائها، في هذا المصاب الجلل".
تظهر المقارنة بين النصّين الاختلاف البارز بين رؤيتين شيعيّتين تجاه الأقليّات الشيعيّة في العالم السنّيّ، ويمكن تتبّع المسار العامّ لسلوك الرجلين خلال زعامتهما الدينيّة في مواقف أخرى. فالأوّل بوصفه قائداً سياسيّاً ودينيّاً لأكبر دولة شيعيّة في المنطقة، عدّ نفسه وليّ أمر المسلمين جميعاً، ناهيك عن الشيعة، إذ يصف نفسه في موقعه الرسميّ بـ"وليّ أمر المسلمين"، مبرّراً ذلك بأنّ منصب ولاية أمر المسلمين هو منصب إلهيّ، لا علاقة له بإرادة المسلمين إن كانوا يريدونه وليّاً عليهم أم لا.
على عكس هذه الرؤية يتصرّف نظيره السيستاني في العراق، فهو لا يرى نفسه وليّاً على شيعة العراق، ولا على الشيعة في المناطق الأخرى من العالم، فضلاً عن أنّه يتعامل مع المسلمين من سائر المذاهب الأخرى من منطلق العلاقة الأخويّة. ففي لقاء مع عدد من شيعة الخليج في آب/أوغسطس 2014، قال السيستاني ردّاً على كلام أحد الزوّار الذي قال إنّهم يذعنون بالولاء له: "لا تقدّسوا أحداً، ولا تنزلوا أحداً فوق منزلته ومرتبته". وفي شأن علاقة المجتمعات الشيعيّة بالمكوّنات الأخرى في مجتمعاتهم الكبرى، أضاف: "لا تتعرّضوا لمقدّسات ورموز غيركم. وليكن الاحترام المتبادل بين الجميع". ويزيد على ذلك أنّ السيستاني انتقد الحركات الثوريّة التي اشتعلت خلال الربيع العربيّ، واعتبرها فتنة أفرزت الطائفيّة وخلّفت جرائم بشعة في العالم العربيّ.
بعد إعدام الشيخ النمر، امتلأت المواقع الرسميّة للخامنئي بانتقادات لاذعة للنظام السعوديّ، متنبّئة بسقوطه قريباً، كما أنّ الخامنئي نفسه كان مباشراً وصريحاً في نقد النظام السعوديّ وتوجيه الاتّهام إليه في خطاباته خلال الأشهر الماضية التي شهدت فيها المنطقة صراعاً إيرانيّاً-سعوديّاً. لكنّ حديث السيستاني كان أكثر إتزاناً عند التطرق إلى النظام السعوديّ، فقد ركّز جهوده على منع السعوديّة من تنفيذ حكم الإعدام على النمر أوّلاً، وتجنّب تصعيد المواقف وتأجيج الصراع السياسيّ–الطائفيّ مع النظام السعوديّ ثانياً.
والجدير بالملاحظة أنّ معظم الشيعة في المناطق الشيعيّة في السعوديّة من أتباع السيستاني، وأنّ التيّارات الشيعيّة السائدة لا تنتمي إلى منهج التشيّع الثوريّ الذي يمثّله مرشد الثورة الإيرانيّة علي الخامنئي. وهذا يشمل التيّار الذي مثّله الشيخ النمر، فهو ينتمي إلى مدرسة الشيرازيّين المعروف عنها معارضتها منهج الخميني والخامنئي لأسباب دينيّة. والحقيقة أنّ المطالبات المدنيّة غلبت على خطاب النمر، ولكنّ عدم وجود استجابة حقيقيّة من قبل النظام السعوديّ أدّى بالنمر إلى تصعيد مواقفه وخطاباته في الفترة الأخيرة ، ممّا أدّى إلى اعتقاله وإعدامه.
إزاء ذلك، نجحت إيران في بدايات الثورة الإسلاميّة في عام 1979 بإيصال خطابها إلى المناطق الشيعيّة في السعوديّة لتخلق حركة معارضة قويّة ضدّ النظام السعوديّ، ظهرت في حركة حزب الله الحجاز التي حصلت على أتباع في المنطقة الشرقيّة في السعوديّة ذات الغالبيّة الشيعيّة. لكنّ الحركة انتهت إلى الفشل إثر دخول قياداتها في تفاوض ومن ثمّ عقد اتّفاقيّات تفاهم مع النظام السعوديّ، ومن هذه القيادات الشيخ حسن الصفار المعروف باعتداله وتواصله مع النظام السعوديّ. وهذا المثال يشير إلى أنّ الأرضيّة الاجتماعيّة الشيعيّة في السعوديّة هي أقرب إلى منهج السيستاني منها إلى منهج الخامنئيّ.
والجدير بالذكر كذلك أنّ الروح الوطنيّة غالبة في المناطق الشيعيّة في شرق السعوديّة، وأبرز مثال على ذلك أنّ شقيق الشيخ النمر على الرغم من اعتراضه الشديد على قيام السعوديّة بإعدام شقيقه، أدان اقتحام السفارة السعوديّة في طهران في 2 كانون الثاني. والحال أنّ موقف السيستاني المعتدل يشكل فرصة مهمّة للنظام السعوديّ عليه أن يغتنمها لإعطاء حقوق المواطنة المتساوية للأقلّيّة الشيعيّة هناك، كي يمنع صعود التيّارات الثوريّة المدعومة من إيران على حساب منهج السيستاني المعتدل.
تبدو هذه الخطوة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فبعد الاتفاق النووي الإيراني تغير ميزان القوى لصالح إيران. على السعودية تحصين مجتمعها ضد أي قوة أجنبية من خلال دعم جميع المكونات ودمجهم في مملكة واحدة متحدة قوية.