أثارت زيارة رجل الدين السنيّ البارز الداعية الإسلاميّ أحمد الكبيسي للعراق، بعد قطيعة طالت أكثر من عقد، جدلاً واسعاً بين المكوّن السنيّ قبل غيره في العراق، إذ دعا إلى تأسيس مرجعيّة دينيّة موحّدة لسنّة العراق، على نظير ما يتمتّع به الشيعة ومعظم الأقليّات، لا سيّما أنّ لديهم زعامة دينيّة موحّدة تجمع صفوفهم ليس دينيّاً فقط، بل سياسيّاً في بعض الأحوال.
وقال أحمد الكبيسي في الأوّل من شباط/فبراير في بغداد بحضور رئيس ديوان الوقف السنيّ الشيخ عبد اللطيف الهميم: "إنّ الأكراد لديهم مرجعيّة، والشيعة، والتركمان، واليهود، والنصارى، والإيزيديّون كذلك لديهم مرجعيّة". ثمّ انتقد عدم وجود زعيم لدى سنّة العراق، ليقترح تنصيب عبد اللطيف الهميم مرجعاً عامّاً لسنّة العراق، قائلاً: "والآن عندكم (أهل السنّة) بدايات أن يكون لديكم مرجع... والحمدلله، أصبح لدينا الآن كبير يجمعنا ويوجّهنا ونقترح عليه ونطلب منه، ولكن علينا أن نتجاوز هذا، وأن تكون (المرجعيّة السنيّة) من الموصل إلى البصرة (شاملة وموحّدة في العراق كلّه). والحمدلله، نحن وجدنا من نأتمنه عليكم، وهو هذا الرجل واسمه الشيخ الدكتور عبد اللطيف الهميم".
واعتبرت الأحزاب والشخصيّات السياسيّة السنيّة أنّ دعوة الكبيسي لتنصيب عبد اللطيف الهميم مرجعاً لسنّة العراق هي محاولة سياسيّة لدعم أحزاب سنيّة مرتبطة بالهميم مقابل منافسيها.
وقال النائب عن اتّحاد القوى (السنيّة) عبد الرّحمن اللويزي في 7 شباط/فبراير: "إنّ زيارة الكبيسي جاءت بأمر إماراتيّ - سعوديّ لدعم رئيس ديوان الوقف السنيّ عبد اللطيف الهميم بتزعّم المرجعيّة الدينيّة العليا السنيّة في العراق، وتشكيل مجمع فقهيّ يكون موالياً".
ولفت إلى أنّ الهدف من زيارة الكبيسي هو "قطع الطريق أمام الإخوان المسلمين والأحزاب السنيّة الإخوانيّة"، في إشارة إلى الحزب الإسلاميّ، الذي كان له دور قياديّ في المشاركة السنيّة بعد عام 2003 حتّى الآن، وتولّت قياداته مناصب سياديّة، منها رئيس مجلس النوّاب سليم الجبّوري.
والجدير بالذكر أنّ المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة تشنّان حملة شاملة في المنطقة منذ سنوات لتقليص دور الإخوان المسلمين والجهات السياسيّة المرتبطة به، خصوصاً بعد دعمهما الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي لإبعاد الإخوان عن السلطة في مصر. ويشار إلى أنّ الحزب الإسلاميّ قد أعلن في وقت سابق رفضه تعيين الهميم رئيساً لديوان الوقف السنيّ، لكنّ رئيس الوزراء العراقيّ حيدر العبادي أصرّ على تعيينه، رغم أنّ رئيس الوقف يجب أن يرشّح من قبل المجمع الفقهيّ حسب القانون.
كما أنّ عبد الرّحمن اللويزي اتّهم أطرافاً شيعيّة، وتحديداً "التحالف الوطنيّ" بدعم وبمباركة زيارة الكبيسي ودعمه للهميم، "كجزء من التسوية السياسيّة" قبيل الانتخابات النيابيّة المزمع إجراؤها في 12 أيّار/مايو المقبل.
وجاءت زيارة الكبيسي بدعوة من العبادي، الذي التقاه شخصيّاً في الأوّل من شباط/فبراير الحاليّ. وهنأ الكبيسي، العبادي بـ"الانتصارات التي تحقّقت على عصابات داعش الإرهابية"، مشيداً بـ"قيادة العبادي للنصر ولوحدة البلاد، فيما دعا الله أن يتمّ إكمال الانتصارات في مجاليّ البناء والإعمار".
ويحظى العبادي بدعم من السعوديّة والإمارات، مقابل منافسيه الشيعة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورئيس منظّمة "بدر" هادي العامري، وهما المقرّبان من إيران والمرشّحان المحتملان لمنافسة العبادي على رئاسة الوزراء المقبلة. وقد انتقد النائب السنيّ وعضو لجنة الأوقاف النيابيّة بدر الفحل، ما أسماه بتأسيس "مرجعيّة دينيّة تُدعم من الخارج".
وفي ظلّ التشتّت السياسيّ الذي يشهده التحالف الشيعيّ، يتطلّع العبادي إلى جهات سنيّة قويّة لدعمه في الحصول على دورة ثانية في رئاسة الوزراء. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مقاصد العبادي من دعوة الكبيسي ودعمه للهميم مرجعاً عامّاً لسنّة العراق، وهو المقرّب من العبادي. ويحظى الكبيسي بشعبيّة دينيّة واجتماعيّة واسعة بين سنّة العراق، وليست لديه سمعة سيّئة لدى الشيعة أيضاً بسبب مواقفه المناهضة للطائفيّة. وإنّ الشخصيّات الدينيّة السنيّة في العراق بمعظمها تخرّجت على يديه أو هي ممّن تخرّجت على يد تلامذته. ويقيم الكبيسي في الإمارات منذ تسعينيّات القرن الماضي، ويحظى بدعم إماراتيّ واسع. كما شغل منصب مستشار في ديوان حاكم دبي ومقرّر للجنة صياغة قانون الأحوال الشخصيّة في الإمارات.
وكان زار الكبيسي العراق بعد أيّام قليلة من سيطرة قوّات التحالف على بغداد في 18 نيسان/إبريل من عام 2003، في محاولة منه لملء الفراغ السياسيّ في الساحة السنيّة وحشد القوى السنيّة للقيام بدور فعّال في الحكم الجديد وفي مواجهة الحشد، الذي كانت تشهده الساحة الشيعيّة التي بدت كأنّها تسيطر على كامل المشهد السياسيّ آنذاك. وألقى الكبيسي خطبة سياسيّة حماسيّة في جامع الإمام أبي حنيفة بالأعظميّة في بغداد، دعا فيها إلى مقاومة الاحتلال الأميركيّ. وخرجت بعدها مظاهرة سنيّة حاشدة تهتف ضدّ الاحتلال الأميركيّ في بغداد.
وأخيراً، رغم أنّ الدعوة إلى تأسيس زعامة دينيّة سنيّة يمكن أن تجني ثماراً سياسيّة محدودة لأصحابها في الانتخابات المقبلة، ولكن تحقيق هكذا مرجعيّة لا يبدو ممكناً إطلاقاً، نظراً لتركيبة المكوّن السنيّ المشتّت اجتماعيّاً ودينيّاً، إذ لا يمتلك مؤسّسة دينيّة موحّدة مثل ما للشيعة في النّجف، ولا يقدّم دعماً ماليّاً مستقلاًّ إلى زعاماته الدينيّة، كما هو رائج لدى الشيعة.