ان أكثر القضايا سخونة في تركيا هذه الأيام هو التعديل الدستوري رئيسي الذي تعدّه الحكومة لاستحداث "نظام رئاسي". في الواقع، انّه الطموح الكبير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحذبه أي حزب العدالة والتنمية في السنوات القليلة الماضية. ولكن، وبفضل التحالف السياسي مع حزب الحركة القومية، يستطيعون الآن تأمين عدد كاف من المقاعد أي 330 مقعداً من أصل 550 في البرلمان - لتحقيق هذا التحول الكبير.
في حال تحقق هذا التحوّل، تكون تركيا قد تخلّت بذلك عن "النظام البرلماني" على الطريقة الأوروبيّة والذي تمسّكت به منذ بداية الجمهورية في العام 1923 - أو حتى منذ اعتماد الدستور العثماني الأول في العام 1876. فبموجب هذا النظام، يُعتبر الرئيس رئيساً حيادياً للدولة، في حين أن السلطة التنفيذية الحقيقية في يد رئيس الوزراء. لم يكن لأردوغان أي مشكلة مع ذلك خلال العقد الأول من وجوده في السلطة عندما كان رئيساً للوزراء. وحين قرّر الترشّح للرئاسة في العام 2012، بدأ ومستشاريه بإطلاق الدعوات لاعتماد "نظام رئاسي" ودستور جديد من شأنه أن السماح بذلك.
يقدّم بعض الداعين إلى اعتماد نظام رئاسي الولايات المتحدة كمثال جيد، الاّ أن هذه المقارنة ناقصة لأسباب مختلفة. أولاً، إن أمريكا عبارة عن فدراليّة تتألف من 50 ولاية مستقلّة في كثير من الأمور، مما يجعل النظام لامركزياً بشكل عام. في المقابل، تركيا عبارة عن دولة مركزية جداً وستبقى كذلك. وعلاوة على ذلك، إن الرئاسة التي يسعى إليها أردوغان تحمل صلاحيات مذهلة لا يمكن تخيّلها في أمريكا، مثل تعيين رؤساء جميع الجامعات في البلد. ونظراً للنظام الانتخابي والثقافة السياسية، من المرجّح أن يسيطر الرئيس الحزبي على حزبه تماماً، مما يمكّنه من السيطرة الكاملة على كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية. هذا إضافة إلى صلاحيات التعيين الواسعة في القضاء الأعلى والتي يمكن تصورّها للرئيس، ما قد يولّد نظام "السلطة الموحدة" - كما أشار بشكل حاسم المستشار السابق لرئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. ومن شأن ذلك أن يكون على عكس نظام الضوابط والتوازنات المبني داخل النموذج الأمريكي.
يقول الداعون إلى النظام الرئاسي أن هذا النظام سيخلّص تركيا من جميع العلل السابقة، بدأً بالمشاكل الاقتصادية إلى الإرهاب – الاّ أن ذلك ايضاً أقرب للدعاية منه للتحليل. حتى أنهم يدّعون أن النظام الرئاسي سيحمي تركيا بشكل قاطع من الانقلابات العسكرية، في حين يرى خبراء آخرون أن العكس تماماً هو الصحيح. أن شادي حميد من معهد بروكنجز أحدهم وكان قد نظر في النماذج السياسية في العالم العربي في كتابه بعنوان "الاستثنائية الإسلامية. ... كيف يعيد الصراع على الإسلام تشكيل العالم".
لاحظ حامد أنه "لماّ تساوت الأمور الأخرى، تخفف الأنظمة البرلمانية من احتمال الانقلابات ضد القادة المنتخبينً". وذلك لأن " الربح والخسارة مطلقين في المعارك الرئاسية – وبالتالي باستطاعة شخص واحد فقط أن يفوز – مما يزيد من المنافسة السياسية."
لسوء الحظ، ما من مجال لمناقشة هذه القضايا بهدوء في تركيا الآن، إذ يتمّ الترويج للنظام الرئاسي من خلال التحدّي في إطار الدعاية بدلاً من النقاش الحر والمفتوح. كما تشير الحاجة الملحّة لهذا الموضوع، على الرغم من كل القضايا الرئيسية الأخرى التي تواجه تركيا، إلى أن التوق إلى نظام جديد مرتبط بالمسار الشخصي للرئيس الحالي. كما أشار زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي الى أن أردوغان يستخدم الكثير من "السلطات بفعل الأمر الواقع" متخطياً بذلك دوره الدستوري، وما يجب فعله هو التوفيق بين النظام و"أمر الواقع" هذا".
كما قالت الصحافة التركية، نجد هنا سيناريو ممكن للانتقال إلى نظام رئاسي: قدّم حزب العدالة والتنمية الحاكم للتوّ إلى حزب الحركة القومية المعارض ثلاث رزم للتعديل الدستوري الاختياري: اما اعتماد دستور جديد تماماً أو زيادة تعديل رئيسي أو تعديل محدود - وكل هذه السيناريوهات تركّز على نظام رئاسي. عندما توافق الحركة القوميّة على أحدها، يصوّت عليها البرلمان ويفتح الطريق أمام إجراء استفتاء في أوائل العام 2017. وإذا جاء التصويت "بنعم"، وهو أمر مرجّح إلى حد كبير، سيكون لتركيا نظاماً سياسياً جديداً.
الاّ أن تقريراً داخلياً قال إن الانتقال لن يتم بين ليلة وضحاها. سيكون هناك "فترة مؤقتة" لمدة عامين، يستخدم خلالها اردوغان سلطاته المستحدثة. ويدخل الدستور الجديد حيز التنفيذ في العام 2019 - العام الذي تنتهي فيه ولاية أردوغان الحالية التي تمتد على خمس سنوات. ثم تجري بعدها الانتخابات الرئاسيّة للنظام الرئاسي. وبما أن ولايته الرئاسية الحالية لن تكون محتسبة في النظام الرئاسي، سيكون لأردوغان فرصة الترشّح لولايتين اضافيّتين متتاليتين وبالتالي يبقى في السلطة حتى العام 2029. ويكون حينها قد بلغ 75 عاماً – وأمضى 27 عاماً في السلطة، أي ضعف الوقت الذي أمضاه مصطفى أتاتورك في السلطة تقريباً، مما يعطي أردوغان مسؤوليّة مستمرّة تتخطّى أي زعيم سياسي آخر في التاريخ التركي الحديث.
هل يمكن تحقيق ذلك حقاً؟ ان ذلك ممكن بالتأكيد من الناحية القانونية، وهو في الواقع بيت القصيد، على الأقل بالنسبة للمعارضة. سياسياً، سيكون على أردوغان أن يحافظ على شعبيته كي يستمرّ بالفوز في الانتخابات في السنوات الـ13 المقبلة. انه يملك الآن قاعدة أيديولوجية كبيرة مخصّصة لشخصه، اضافة الى دعم الناخبين البراغماتيين الذين يعتقدون أنهم أفضل حالاً تحت حكم حزب العدالة والتنمية. ومن أجل الحفاظ على هذا الدعم، سيكون على أردوغان على يحافظ على حسن سير العجلة الاقتصاديه. أما السؤال المحوري المتعلّق بمستقبل تركيا السياسي فيتمحور حول قدرته على تحقيق ذلك.
في أي حال، سنشهد على تجربة سياسية مهمّة، وستُفرح هذه التجربة مؤيديها وتسبب الخوف والصدمة لمعارضيها، وتعطي نفسها أهميّة في التاريخ السياسي للعالم.