في أوائل أيار/مايو، استلم نحو 40 مسؤولاً إسرائيلياً بارزاً مسودّة تقرير سرّي أعدّه المراقب العامّ جوزيف شابيرا. وتمحور التقرير حول عمليّة الجرف الصامد التي هزّت مضجع إسرائيل في صيف 2014. وفي غضون يوم واحد، تمّ تسريب مقاطع معيّنة من التقرير للصحافة، ما أثار حرباً شاملة بين القيادات السياسيّة والعسكريّة في البلاد. فهاجم الجميع بعضهم البعض. انتقد رئيس الحكومة ووزير الدفاع المراقب العامّ، وهاجم أعضاء في الحكومة السابقة أعضاء في الحكومة الحاليّة، وتحدّى الجنرالات بعضهم البعض، ووجّه رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان كلمات جارحة إلى الجميع. هذا ما يحصل عندما يمضي جيش ضخم مدرّب جيّداً ومجهّز جيّداً 51 يوماً في التصدّي بصعوبة لمجموعة إرهابيّة صغيرة ومحاصرة تمكّنت من الاستمرار في إطلاق الصواريخ على تل أبيب حتّى اللحظات الأخيرة من العمليّة العسكريّة.
وما يزيد الطين بلّة هو أنّ كلّ ذلك يحصل بالتزامن مع ترقّب الجميع جولة جديدة من العنف في غزّة. فقد عادت إسرائيل وحماس إلى تبادل إطلاق النار في الأسبوعين الماضيين، بينما تحقّق قوّات الدفاع الإسرائيليّة تقدّماً ملحوظاً في إيجاد حلّ لمشكلة الأنفاق. ففي الأسابيع القليلة الماضية، رصدت التكنولوجيا الجديدة التي طوّرتها قوّات الدفاع الإسرائيليّة نفقين اثنين يمرّان في الأراضي الإسرائيليّة. وتعتقد إسرائيل أنّها سترصد قريباً أنفاقاً إضافيّة، ما سيحرم حماس من جبهتها الممتدّة تحت الأرض، التي تُعتبر حتّى اليوم مكسبها الاستراتيجيّ الرئيسيّ وميزتها الوحيدة مقارنة بقدرات الجيش الإسرائيليّ. ونظراً إلى الوضع الحاليّ، يتخوّف البعض من أن تدفع الظروف طرفي النزاع إلى جولة جديدة من الاقتتال في وقت أبكر من المتوقّع، لا بل ربّما هذا الصيف، على الرغم من حظوظ حماس القليلة في استعادة القدرات الاستراتيجيّة التي كانت تملكها قبل عمليّة الجرف الصامد.
ولا تُعتبر هذه العمليّة العسكريّة فعلياً قصّة نجاح إسرائيليّة. فعلى الرغم من أنّ إسرائيل ألحقت ضرراً ودماراً كبيرين بقطاع غزّة، إلا أنّها سجّلت أيضاً 72 إصابة في صفوفها (من بينها 67 جندياً). ووجدت أيضاً صعوبة في اتّخاذ خطوات فعّالة ضدّ حماس التي استمرّت في إطلاق الصواريخ حتّى اللحظة الأخيرة من الحملة العسكريّة. فقد تمكّنت حماس، للمّرة الأولى منذ تأسيسها، من ضرب تل أبيب وإقفال هذه المدينة الهادئة طوال أسابيع، ونجحت أيضاً في إقفال مطار بن غوريون الدوليّ لمدّة يومين. وعلى الرغم من كلّ تلك المشاكل، وجدت الحكومة صعوبة في اتّخاذ القرارات. فقد تردّد الجيش الإسرائيليّ في احتلال غزّة، ولم يُتّخذ القرار بشنّ عمليّات لتعطيل نظام الأنفاق إلا بعد مواربات مطوّلة وبثمن باهظ.
لقد تطرّق المراقب العامّ إلى كلّ هذه المسائل كما لو أنّه عثر على كنز. بموجب القانون، يُمنع نشر مسودّات التقارير التي يعدّها المراقب العامّ. وفي المقاطع التي تمّ تسريبها من هذه المسودّة، ينتقد المراقب العامّ بشكل لاذع أداء الجيش الإسرائيليّ، بالإضافة إلى القيادة السياسيّة وصانعي القرار.
ويوجّه غالبيّة انتقاداته إلى الرئيس السابق لهيئة الأركان بيني غانتز، علماً أنّ الجهاز الاستخباراتيّ لم يسلم من الانتقادات. فـ "مفاجأة الأنفاق" تُعتبر فشلاً ذريعاً لأنّ القوّات الاستخباراتيّة لم تدرك حجم المشكلة في وقت مبكر، وأعضاء الحكومة لم يتلقّوا آحدث المعلومات وبالتالي لم يدرسوا المسألة، والجيش الإٍسرائيليّ لم يضع خطّة لمحاربة الأنفاق، بل اختار الارتجال طوال فترة القتال.
وتصف مسودّة التقرير إسرائيل بالحائرة والمتردّدة. فكلّ التكهّنات التي قدّمها رئيس هيئة الأركان إلى الحكومة كانت فاشلة. بالإضافة إلى ذلك، أخفى رئيس الحكومة معلومات مهمّة عن الوزراء، بما في ذلك وضع إمدادات الذخيرة، طوال فترة القتال.
وكشف مسؤول أمنيّ إسرائيليّ بارز إلى "المونيتور" ما يأتي، طالباً عدم الكشف عن هويّته: "لو تمّ نشر البيانات عن عدد الصواريخ والقذائف التي تمّ قصفها أثناء عمليّة الجرف الصامد، لأصيب الجميع بالذعر". ففي غياب أيّ حلّ آخر، استخدمت إسرائيل عدداً هائلاً من ذخائر الهجوم المباشر المشترك في محاولة لتدمير الأنفاق. لكنّها فشلت، وكانت قد استعملت جزءاً كبيراً من مخزونها الذي كان مخصّصاً لغايات استراتيجيّة أخرى أكثر أهميّة. وأطلقت أربع كتائب دبّابات من الجيش النظاميّ (حوالى 400 دبّابة) شاركت في الحملة عدداً كبيراً من القذائف، فكادت تستنزف مخزونها.
وقال ضابط إسرائيليّ متقاعد لـ "المونيتور"، طالباً عدم الكشف عن اسمه، بعيد انتهاء الحملة في آب/أغسطس 2014: "ماذا كان ليحصل لو واجهنا حرباً حقيقيّة بدلاً من هذا الاشتباك المحليّ في غزّة؟". وفي حديث مع "المونيتور" بعيد انتهاء عمليّة الجرف الصامد، كشف رئيس الموساد الراحل مئير داغان أنّه مصدوم من النتيجة، قائلاً: "تقوم منظّمة إرهابيّة صغيرة بترويضنا. يحفرون أنفاقاً منذ سنوات. ونحن نعلم ذلك، لكنّنا لم نضع خطّة أو نحضّر ردّاً. في السابق، كنّا نحن الجهة التي تباشر وتحقّق وتتوصّل إلى ردّ. أمّا اليوم فهم هذه الجهة. هذا مثير للقلق".
ردّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على المسوّدة المسرّبة بهجوم شامل فيما سارع مساعدوه المقرّبون إلى إطلاق هجوم مجهول على المراقب العامّ، واصفين إيّاه بأنّه "غير جادّ". يبدو أنّ نتنياهو نسي أنّه كافح من أجل توكيل شابيرا في هذا المنصب وأنّه أجرى هو وزوجته مقابلة مع شابيرا في منزلهما في القدس قبل تولّيه مهامّه.
وتراجع نتنياهو عن موقفه بعد يوم واحد فقط عندما اتّضح أنّ انتقاد التقرير للقيادة السياسيّة ليس جازماً كما اعتُقد في البداية وأنّه تمحور بشكل خاصّ حول أداء قوّات الدفاع الإسرائيليّة. عندئذٍ، بدأ مساعدو نتنياهو بالإشادة بمسودّة التقرير. وحصلت بلبلة في صفوف قوّات الدفاع الإسرائيليّة عندما انتقد القائد السابق للقيادة الجنوبيّة، الجنرال يوم توف ساميا، طريقة عمل هذه القوّات أثناء العمليّة العسكريّة. ولاقت تصاريحه ردّاً علنياً ساخطاً من الجنرال سامي ترجمان الذي كان قائد القيادة الجنوبيّة أثناء العمليّة.
وسياسياً، يستغلّ عضو الكنيست أفيغدور ليبرمان البلبلة التي أحدثتها مسودّة التقرير للاستمرار في مهاجمة صورة نتنياهو كخبير أمنيّ. ويوجّه نتنياهو بدوره انتقاداته شخصياً إلى ليبرمان. وبحسب التقارير، يقول مسؤولو حزب الليكود اليوم عن وزير الخارجيّة السابق إنّ "أقرب شيء إلى الرصاصة مرّ يوماً بالقرب من أذنه هو كرة مضرب"، مشيرين إلى أنّ ليبرمان بالكاد تكبّد حتّى عناء حضور اجتماعات الحكومة.
أمّا الشخص الوحيد الذي يلزم الصمت فهو وزير التربية نفتالي بينيت الذي كان عضواً في الحكومة أثناء عمليّة الجرف الصامد ولا يزال حتّى اليوم. كان بينيت أوّل من أدرك أنّ خطر الأنفاق يتطلّب حلاً عاجلاً، وضغط حتّى على الحكومة للموافقة على تدابير لحلّ هذه المشكلة قرابة نهاية العمليّة. وتوافق كلّ المصادر على أنّ مسودّة التقرير تشيد بالتحرّكات التي قام بها بينيت، وهو أمر سيستغلّه الوزير بلا شكّ لمصلحته ما إن يصبح التقرير بكامله علنياً. أمّا في الوقت الحاليّ، فهو يدع الجميع يتجادلون بشأن مضمون التقرير ويستمتع بكلّ لحظة.