يبدو أن كل واحدة من الثورات ساهمت في تعزيز التقدّم التكنولوجي أو أفادت منه بطريقة معيّنة. وليست سلسلة الاحتجاجات الأخيرة التي بدأها النشطاء الفلسطينيون في 13 أيلول/سبتمبر الجاري باستثناء. يبدو أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي عن طريق الهواتف الذكية هو الموضة الرائجة حالياً في أساليب التواصل، نظراً إلى السهولة التي تتيحها في تحميل أشرطة الفيديو بصورة فورية.
يعتبر داني قمصية، مالك محطة "موال إف إم الإذاعية" في بيت لحم، أن كاميرات الفيديو العالية الجودة في الهواتف الجوّالة أحدثت فارقاً كبيراً. فقد قال لموقع "المونيتور": "الآن يقوم الجميع بتصوير أشرطة الفيديو، ونشرها وتشارُكها مع أكبر عدد ممكن من الأشخاص".
ولفت مهندس الاتصالات الفلسطيني البارز، مأمون مطر، إلى أن التكنولوجيا أتاحت لعدد كبير من الأشخاص المشاركة في النضال الوطني الفلسطيني الحالي، قائلاً: "يملك الجميع هاتفاً جوالاً أو كمبيوتراً محمولاً، وهناك من يتمكّنون من التقاط الصور وتصوير أشرطة الفيديو، أما الباقون فيعملون في الغرف الخلفية لتحرير الصور القوية الوقع ونشرها في العالم قاطبة". وأشار مطر إلى أن النشطاء الشباب يقومون بالجزء الأكبر من العمل الذي كانت تتولاّه وسائل الإعلام التقليدية. هذا مختلف عن الانتفاضة الثانية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2000، عندما نشطت قناة "الجزيرة" وسواها من المحطات الفضائية العربية والإقليمية في تغطية الاحتجاجات الفلسطينية. يعلّق مطر: "الأمر مختلف هذه المرّة. تلك المحطات منشغلة بتغطية أعمال العنف في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، لذلك لا تولي اهتماماً لفلسطين كما في السابق".
قال خالد أبو عكر، مدير شبكة "أمين" التي هي من أوائل المواقع الإلكترونية الإخبارية التي أنشئت في فلسطين، لموقع "المونيتور" إنه لأول مرة، لم يعد الفلسطينيون بحاجة إلى الإعلام التقليدي. فقد علّق: "خلال الانتفاضتَين الأولى والثانية، كنّا نتلقّى اتصالات في وسائل الإعلام ليطلبوا منا تغطية الأحداث. أما اليوم فالشباب هم من يتولّون مهمة التصوير وبث الصور وأشرطة الفيديو بأنفسهم". لكن إحدى الوسائل الإعلامية تتولّى التغطية التلفزيونية المباشرة التي يُنشدها عدد كبير من الفلسطينيين وداعميهم. فقد وضع تقنيون من "شبكة فلسطين الإخبارية" كاميرا على مقربة من الموقع الأساسي للاحتجاجات في بيت لحم، وتمكّنوا من أن يبثّوا مباشرةً مشاهد حيّة من مسرح الاحتجاجات.
وقد قال الصحافي الفلسطيني المخضرم أحمد بديري، لموقع "المونيتور" إنه في حين يستخدم معظم الأشخاص حول العالم مواقع التواصل الاجتماعي لتشارُك الصور وأشرطة الفيديو العائلية، يستعملها الفلسطينيون بطريقة مختلفة تماماً: "في فلسطين، لا سيما في فترات التشنّج، تتحوّل وسائل التواصل الاجتماعي منبراً سياسياً غالباً ما يصل إلى مستوى التعبئة السياسية".
وعلّق بديري الذي عمل في "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) والعديد من الشبكات التلفزيونية الإقليمية، على استخدام القادة والسياسيين لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل تحقيق غاياتهم الخاصة: "ما ليس عادياً هو أن يجمع القادة السياسيون العديد من أشرطة الفيديو القوية الوقع ثم يكتبوا تعليقاً يعكس وجهة نظرهم الأيديولوجية". وهو يعتبر أن القادة العقائديين والسياسيين يستخدمون هذا الأسلوب بسبب ضعف الإعلام المحلي ومحدوديته، ولأنهم يريدون الوصول إلى الشباب في الجبهات الأمامية للاحتجاجات.
خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت في العام 1987، كانت وسائل التواصل الأساسية تتمثّل في آلتَي الفاكس والطباعة. لكن هذه المرة، لا يُستخدَم أيٌّ منهما.
شرح بديري: "في الاحتجاجات السابقة، حاول الإسرائيليون تعقّب التواصل عبر الفاكس وبحثوا عن آلات الطباعة التي كانت تُستخدَم في طباعة المناشير السرّية قبل توزيعها. أما الآن فالطرفان يعتمدان بالكامل على التكنولوجيا". ولفت أيضاً إلى أن استخدام التكنولوجيا لا يقتصر بالطبع على الفلسطينيين. فالجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تستخدم أيضاً أدوات عالية التقنية لمراقبة قادة الاحتجاجات والتعرّف على هويتهم.
تندرج أشرطة الفيديو التي تنتشر سريعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في واحدة من ثلاث فئات. بعضها يُصوّر الصدامات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فقد نُشِر شريط فيديو سُجِّل بعد لحظات من وقوع هجوم بالسكين في مدينة القدس القديمة في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، في اليوم نفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحصد أكثر من 142000 مشاهدة عبر موقع "يوتيوب". تُوثِّق أشرطة فيديو أخرى استخدام الإسرائيليين للقوة المفرطة في مواجهة الفلسطينيين. يُظهر مقطع فيديو التقطته إحدى كاميرات المراقبة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري في سوبرماركت في حي أبو طور في القدس، القوى الأمنية الإسرائيلية تطارد فتى فلسطينياً إلى داخل المتجر، وتعامله بخشونة، وتضرب مالك المتجر. شاهد أكثر من 624000 شخص مقطع الفيديو الذي تبلغ مدّته دقيقتَين.
لعل مقاطع الفيديو الأكثر مشاهدةً هي تلك التي توثّق الأفعال البسيطة التي تنم عن شجاعة الفلسطينيين. يُظهر شريط فيديو جرى تسجيله في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري رجلاً عجوزاً أعزل من مدينة الخليل يتواجه كلامياً مع جنود إسرائيليين مدجّجين بالسلاح ويحاول إرغامهم، متسلّحاً فقط بقوة العزيمة، على مغادرة المنطقة. شاهد أكثر من مليون شخص هذا المقطع الذي صوّره بلال الطويل، وهو مصوّر فلسطيني شاب من مدينة الخليل. تسلّط الصور ومقاطع الفيديو الضوء أيضاً على الزيادة الملحوظة في أعداد الشابّات اللواتي يشاركن في الاحتجاجات، في ظاهرةٍ جديدة.
شهدت الثورة الإيرانية في العام 1979 استخداماً واسعاً لأشرطة الكاسيت السمعية من أجل نشر الأخبار، واستخدمت الانتفاضة الأولى آلات الفاكس لنشر التعليمات في أوساط الجماهير. واليوم، يستعمل الفلسطينيون مواقع التواصل الاجتماعي لتوسيع نطاق الدعم لقضيتهم والتواصل في ما بينهم. لكن في كل هذه الحالات، التكنولوجيا وحدها لا تصنع الثورة. الناس هم من يصنعونها، بمؤازرة التكنولوجيا بهدف نشر المعلومات وبثّ الحماسة والتشجيع داخل الحراك وخارجه.