لأول مرة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، استدعت الحكومة الاسرائيلية قوات الدفاع الإسرائيلية إلى القدس في 13 تشرين الأول / أكتوبر. وعندما تولى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السلطة لأول مرة عام 1996، كان شعار حملته الانتخابية «بيريز سوف يقسم القدس.» وسرعان ما انتشر هذا الشعار وأساء إلى حظوظ زعيم حزب العمل الانتخابية شمعون بيريز مستغلا قدسية القدس للغالبية العظمى من الإسرائيليين أينما حلّوا. فرفع نتنياهو وضع القدس إلى مستوى جديد، وسرعان ما استحال وصيا وحاميا رسميا للمدينة. ومنذ ذلك الحين، في كل مرة يكثر الحديث في الصحف الاسرائيلية عن مساع دبلوماسية لتحقيق السلام، سرعان ما يقوم الناطقون باسم الليكود باتهام اليسار بمحاولة تقسيم القدس. إلا أن القدس مقسمة اليوم بكل ما للكلمة من معنى، وليس لليسار يدا في ذلك.
يجدر التذكير في هذا الإطار أن الحكومة الحالية في اسرائيل يمينية عن حق وحقيقة، وهي المرة الأولى التي لا تتضمن فيها الحكومة عنصرا معتدلا أو وسطيا كما جرت العادة في الماضي، ونذكر على سبيل المثال حزب العمل (إيهود باراك) أو كاديما (تسيبي ليفني). حتى أن وزراء الليكود المعتدلين مثل دان مريدور وميخائيل إيتان قد غابوا عن الأنظار، ومن المفارقة أن الحكومة حكومة يمينية يتم إرغامها على الاعتراف بأن القدس مقسمة واقعياً - إلى غرب وشرق، ويهود ضد فلسطينيين.
بعد أن احتلت اسرائيل القدس الشرقية عام 1967، تم توحيد قسمي المدينة. ومع الانتفاضة الثانية (2000-2005)، بدأت إسرائيل بناء سياج لفصل الأحياء الفلسطينية المحيطة عن القدس، ومنذ فترة ليس بالقصيرة، توقفت إسرائيل عن ممارسة سيادتها في الجزء الشرقي من المدينة. وما عاد لرموز الحكومة أي وجود هناك، فيما أصبح وجود الحكومة محدودا وتحولت القدس الشرقية إلى أرض محايدة ومرتعا خصبا لليأس والاغتراب والعزلة والتطرف الديني. هذا فضلاً عن التحريض الممارَس من قبل الفرع الشمالي للحركة الإسلامية الاسرائيلية برئاسة الشيخ الراديكالي رائد صلاح، والسلطة الفلسطينية وشبكات التواصل الاجتماعي المضطربة. والنتيجة كانت ما نشهده اليوم من أحداث. أما استدعاء الشرطة الإسرائيلية لقوات الدفاع الإسرائيلية في قلب عاصمة إسرائيل فيمكن مقارنته باستدعاء قوات البحرية الامريكية للقيام بدوريات في شوارع واشنطن، ما يدا على أن الخطر يحدق برموز السيادة الإسرائيلية.
إننا نعيش في عصر تنهال فيه المفاجآت علينا من كل حدب وصوب وتتوق فيه إسرائيل إلى الأيام الخوالي حين كان بإمكانها استخدام عميل عالي الجودة في منطقة مجاورة لحاكم عربي ونظام تنصت متطور بهدف اعتمادهما كسياسة «بوليصة تأمين» لتقييم احتمالات نشوب حرب. وهي سياسة لطالما سمحت للقادة الاسرائيليين بالنوم قرير العين. إلا أن تلك الحقبة ولّت وقد أخذت الانتفاضة الحالية — التي أطلق عليها الفلسطينيون تسمية «انتفاضة القدس» فيما أطلق عليها البعض اسم انتفاضة السكين — القيادة السياسية في إسرائيل على حين غرة، وكم كثرت التناقضات الناتجة عن تحاليل هذه القنبلة المفاجئة.
عديدة هي وحدات المخابرات والتحاليل التي يتلقى القادة السياسيون الإسرائيليون المعلومات منها، وهي تتضمن الاستخبارات العسكرية لقوات الدفاع الاسرائيلية، والموساد، والشاباك، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن الوطني ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق. أما »المحلل الوطني» فهو رئيس الاستخبارات العسكرية، أي هرتزل ليفي حاليا، في حين يبقى الموساد غير معني في ما يخص الفلسطينيين لأن ولايته القضائية تتجاوز حدود إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وبحسب مصادر مقربة من نتنياهو ووزير الدفاع موشيه «بوغيه» يعلون، أيا من المعلومات التي تلقونها في العامين الماضيين لم تشر إلى أنه يتم الاتصال بكتلة حيوية في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية أو بالجمهور الفلسطيني بصورة عامة بهدف خلق طاقة كافية تؤدي إلى انفجار عنيف، بل قد تم إبلاغهم أن الجمهور الفلسطيني متعب وغير راغب بجولة أخرى من العنف تعود به إلى أيام الانتفاضة الثانية الكابوسية.
المشكلة هي أنه تم إيصال رسائل أخرى إلى المناصب الدبلوماسية تتضمن تحذيرات واضحة بأن الإحباط على الأرض إلى ازدياد وأن الاضطرابات والانفعالات ترتفع وأن الشبان الفلسطينيين يشعرون أنهم منفصلين عن القيادة الحالية ويبحثون عن اتجاه معين، وأن السيطرة على الأراضي من المرجح أن تتدهور. وقد صدرت هذه التحذيرات عن القيادة المركزية المسؤولة عن الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، وعن اللواء يوآف مردخاي على وجه التحديد، وهو منسق الأنشطة الحكومية في الأراضي. ويُعتبر مردخاي، المعروف باسم «بولي» في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من أكثر الناس ملاحقة للنبض الفلسطيني.
ويرتبط جانب رائع من هذه القضية بنوع المخابرات التي يجب تفضيلها على غيرها: فهناك نوع يستند إلى جمع بيانات ومعلومات استخبارية منظمة تستند إلى استخبارات الإشارات، أي الوسائل الإلكترونية، والذكاء البشري، كما هناك نوع غير دقيق قائم على الشعور الغريزي، والمزاج العام الشامل، والاتجاهات الثقافية والإعلامية. وقد استندت تحذيرات وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق والقيادة المركزية على النوع الثاني. في هذه الحالة، ثبت أن الحدس يضاهي في بعض الأحيان التنصت على المكالمات الهاتفية ويضاهي وكلاء مهنيين أو حتى مزيجا من الاثنين، إذ بإمكان الحدس أن يتغلّب على الرأس، وهو الحال في انتفاضة السكين.
إلا أن هذا التمرد يختلف عن سابقاته، وهي المرة الأولى التي لم يكن هناك أي زعيم أو كيان على الأرض يباشر بالأحداث أو ينفذها أو يدمجها. ما من أهداف محددة هذه المرة. ما من أحد يضبط أو يحيد أو يستبعد. إنها انتفاضة غير متوازنة. إنه تمرد غريب ينتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي ويثور في الهمجية فيشن هجمات على يد أفراد معزولين أو مجموعات صغيرة. فإذا بالشباب الفلسطيني (وقد يكون شابا يبلغ 13 عاما في بعض الأحيان) يهاجم الاسرائيليين بالسكاكين والفؤوس وقشارات الخضروات ويدهسونهم بالسيارات ويضربونهم بفؤوس بلا عقلانية وبدموية غير مبررة وقاتلة فيما تنبع بعض الهجمات من التحريض المحيط بجبل الهيكل (أو الحرم الشريف للمسلمين) والمسجد الأقصى.
وقد سبق لموقع المونيتور أن كتب عن انفجارية قضية الحرم الشريف وعما إذا كانت الانتفاضة القادمة ستنتج عنه. لكن وبعد لقاء عُقد بين زعيم المعسكر الصهيوني اسحق هرتسوغ والرئيس الفلسطيني محمود عباس في 18 آب / أغسطس في مدينة رام الله، استشهد مقال نشر على موقع المونيتور بتحذير نابع من قلق رئيس السلطة الفلسطينية إلى رئيس المعارضة الاسرائيلية: عباس يخشى انتفاضة ثالثة تؤدي إلى فقدان السيطرة على الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية. فسلم هرتسوغ هذه الرسالة ليس فقط للمونيتور، ولكن أيضا لنتنياهو، الذي لم يرد. وهو الآن آسف على الأرجح.
ومن المهم التأكيد على أنه ليس لدى إسرائيل أي نية للسيطرة على المسجد الأقصى أو تغيير الوضع القائم في الحرم الشريف. إلا أن الفلسطينيين أكثر انتباها لنظريات المؤامرة استنادا إلى بيانات من اليمين الإسرائيلي المسياني. فالمسيانيون على مسافة كبيرة من الحكومة، وكل من يرى في كلامهم سيناريو وشيك التحقق يتلاعب بالحقائق. لكن لا أهمية لهذا كله حاليا لأن الفلسطينيين مقتنعون بأن إسرائيل تخطط للاستيلاء على الأقصى.
وقبل أن تتخذ الحكومة الإسرائيلية إجراءات واضحة، مثل إغلاق الحرم الشريف في وجه اليهود لفترة تهدئة، ما من أمل بتغير عقلية الفلسطينيين. وفي حال عدم تغير عقليتهم، ستدوم هذه الانتفاضة الغريبة وتدوم...