بعد أكثر من أسبوع على اندلاع أعمال العنف في الأنبار، باتت الصورة الميدانيّة للمجموعات المتقاتلة هناك أكثر وضوحاً. هي لا تتطابق مع الإعلانات الرسميّة العراقيّة عن حرب بين طرفَين أحدهما تنظيم "القاعدة" والآخر القوات الأمنيّة وقوات "الصحوة" العشائريّة المتحالفة معها. وهي أيضاً لا تتطابق مع وإعلانات زعماء الفلوجة وعشائرها عن صراع بين العشائر وقوات حكوميّة.
وسبب الضبابيّة التي سادت مشهد الأنبار عموماً والفلوجة على وجه التحديد، هو بروز تنظيم "الدولة الإسلاميّة في العراق الشام" (داعش) بعد يوم واحد من انتشار مسلحين في مدن الأنبار قالوا إنهم ينتمون إلى العشائر السنيّة في الأنبار احتجاجاً على قرار رئيس الحكومة العراقيّة نوري المالكي باعتقال النائب السنّي أحمد العلواني وفضّ ساحة اعتصام الرمادي بالقوّة بعد عام من بدء التظاهرات السنيّة.
أسلوب ظهور أرتال من المقاتلين يستقلّون سيارات دفع رباعي تحمل على ظهرها أسلحة متوسطة ومضادات للطائرات وترفع راية "القاعدة" التقليديّة، بدا مرعباً وسمح بوضع السيناريو الذي انتشر في خلال الأيام الماضية ويذهب إلى أن "داعش سيطرت على مدن الأنبار خصوصاً الفلوجة وأعلنتها إمارة إسلاميّة".
وعلى الفور بدأت الخنادق تتّخذ منحى آخر مع إعلان زعماء تنظيم "الصحوة" التقليديّين وأبرزهم الشيخ أحمد أبو ريشة محاربة "القاعدة"، على الرغم من أنه يعدّ من أبرز قادة الاعتصامات السنيّة طوال العام الماضي. وقد خاضت "الصحوة" معارك طاحنة مع مجموعات "القاعدة" وتمكنت في خلال ساعات من إعادة السلطة الرسميّة إلى معظم المدن ما عدا الفلوجة التي استمرّ الوضع فيها مختلفاً.
والمشهد في الفلوجة لم يتوضّح حتى ذلك الحين. فمجموعة من أبرز زعماء عشائر الأنبار يتقدّمهم الشيخ علي الحاتم السلمان أمير قبيلة الدليم، أصروا على أن لا وجود لـ"القاعدة" في المدينة وأن ما يحدث هو مواجهة بين العشائر والسلطات الرسميّة إلى حين تحقيق مطالب السنّة وأبرزها إطلاق سراح النائب العلواني وكذلك المعتقلين والمعتقلات السنّة في السجون وتحقيق توازن في مؤسسات الدولة وإلغاء قوانين اجتثاث البعث والإرهاب.
لكن أحد أعضاء مجلس ثوار العشائر في المدينة الذي فضّل عدم الإفصاح عن هويّته، كشف لـ"المونيتور" عن معلومات تؤكّد أن نحو 300 من عناصر تنظيم "داعش" وصلوا الفلوجة صباح يوم الجمعة في الثالث من كانون الثاني/يناير الجاري بعد انسحاب معظمهم من مواجهات خاضوها مع عشائر في الرمادي.
أضاف هذا المصدر أن "مسلحي العشائر طوّقوا مسلحي القاعدة حال وصولهم، وتمّ ذلك بالتزامن مع صلاة الجمعة التي اعتلى منبرها أحد قادة القاعدة وأعلن للمصلين أن: تنظيم الدولة الإسلاميّة قدم إلى الفلوجة لحماية أهلها وإعلاء راية الإسلام".
وأكّد المصدر ذاته أن "عشائر الفلوجة لم تصطدم مع القاعدة، لكنها لم تنسّق معها أيضاً. فقد تمّ الاتفاق على مغادرة مدينة الفلوجة. وبالفعل تمّ ذلك، إذ تمركزت مجموعة القاعدة التي كانت تستقلّ ثلاثين سيارة دفع رباعي إلى منطقة الحيّ العسكري جنوب الفلوجة ومنها إلى الطريق الدولي الذي يربط ما بين بغداد وعمان ودمشق، ومن هناك تسلل بعض عناصر المجموعة إلى منطقة أبو غريب إلى شرق الفلوجة".
لكن ذلك لا يعدو كونه أحد أوجه الواقع الذي يسجَّل في داخل مدينة الفلوجة اليوم. وتوضح المصادر الأكثر حياداً في داخل المدينة أن أربع قوى مسلحة تنتشر على حدود المدينة وفي داخلها اليوم، وهي:
أولاً: مسلحو العشائر ويأتون في إطار مجموعات يقودها ضباط سابقون في الجيش تنتمي إلى عشائر الدليم الرئيسيّة مثل البو نمر والفراج والبو عيسى والفلاحات، بالإضافة إلى مسلحين من عشائر الجميلات والجبور والجنابات. وهؤلاء تمّ تنظيمهم تحت مسمّى "ثوار العشائر"، ويُعتقد أن الشيخ علي الحاتم السلمان يقودهم بنفسه ومرجعيّتهم السياسيّة والدينيّة تعود إلى "مجلس ثوار العشائر" الذي يرجَّح أن يكون رجل الدين السلفي أبو عبد الله الجنابي زعيمه.
ثانياً: مجموعات مسلحة قاتلت القوات الأميركيّة وتمّ حلّها في الأعوام السابقة أو قلّصت نشاطها أو انضمت إلى قوات "الصحوة" والقوى الأمنية مثل "حماس العراق" و"كتائب ثورة العشرين" و"جماعة النقشبندية" و"جيش المجاهدين" بالإضافة إلى مجموعات بعثيّة. وتمتلك تلك المجموعات قيادات ومرجعيات إخوانيّة وسلفيّة في داخل العراق وخارجه، وهي تنسّق عملها مع "مجلس ثوار الأنبار".
ثالثاً: تنظيمات سلفيّة جهاديّة تتبع تنظيم "القاعدة" لكنها ليست من ضمن مجموعات "داعش"، إذ انفصلت عن التنظيم مع تمرّد زعيمه أبو بكر البغدادي على زعيم "تنظيم القاعدة" الدولي أيمن الظواهري. وأبرز تلك المجموعات "جيش أنصار السنّة".
رابعاً: تنظيم "داعش" الذي قدم جزء من عناصره من صحراء الأنبار إلى مدينة الرمادي وخاض معارك هناك مع قوات "الصحوة". ومن هناك دخل مدينة الفلوجة وانضم إليه مقاتلون محليّون ينتمون إلى التنظيم في الأساس وآخرون قدموا من مناطق أبو غريب ومحيط بغداد.
هذه الخريطة شديدة التعقيد والتداخل، ولا يمكن لأحد أن يجزم وجود تنسيق في ما بين هذه القوى. لكن المعلومات الأكثر مصداقيّة ما زالت تؤكّد أن "ثوار العشائر" هم القوة الأكبر على الأرض وتضمّ آلاف المقاتلين التابعين إلى زعماء عشائر ورجال دين، وهم من داخل مدينة الفلوجة نفسها.
في خارج الفلوجة تتداخل خريطة القوى أيضاً. فإلى جانب الجيش العراقي الذي يتمركز في شرق الفلوجة وشمالها، تنتشر قوات "سوات" التابعة إلى الشرطة الاتحاديّة في مناطق إلى جنوب وغرب الفلوجة التي ترتبط بالرمادي. وتتداخل مناطق قوات "الصحوة" العشائريّة مع مناطق قوات "سوات" والجيش، لكن "الصحوة" أقل نفوذاً في الفلوجة مقارنة ببقيّة مدن الأنبار.