نقلت وزارة الآثار المصريّة، في 7 آب/أغسطس، مسلّة رمسيس الثاني من حيّ الزمالك في وسط القاهرة إلى مدينة العلمين الجديدة، التي تنشئها الحكومة على الساحل الشماليّ-الغربيّ لمصر، ضمن استراتيجيّة لتحويلها إلى مقرّ صيفيّ للحكومة على غرار مدينة سوتشي الروسيّة. غير أنّ هذه المدينة الضخمة، التي دشّنتها الحكومة في آذار/مارس 2018 وتخطّط لأن تستوعب حوالى مليونيّ نسمة باستثمارات 3 مليارات جنيه (183,3 مليون دولار)، ستضاف إلى عشرات المدن الجديدة التي بنتها مصر وتبنيها أخيراً، لكنّها تواجه شبح عدم وجود السكّان.
تشهد مصر طفرة عقاريّة متسارعة واستثمارات ضخمة تضخّها الحكومة والقطاع الخاصّ في القطاع العقاريّ، مع بناء العديد من المدن في الصحراء، ضمن استراتيجيّة المدن الحضريّة الجديدة التي تبنّاها في البداية الرئيسان السابقان أنور السادات وحسني مبارك، لتقليل التوسّع على الأراضي الزراعيّة، وتشكّل العشوائيّات حول المدن، مثل مدينة السادات و6 أكتوبر. وحتى المدن التي صممت لنقل الإدارات الحكومية إليها، مثل القاهرة الجديدة ثم العاصمة الإدارية الجديدة (التي يجرى بنائها) لم تحقق الهدف المرجو.
وشهدت هذه الاستراتيجيّة تسارعاً كبيراً خلال عهد الرئيس الحاليّ عبد الفتّاح السيسي، حيث تصدّرت أولويّاته. إلّا أنّ هذه الاستراتيجيّة لم تغيّر كثيراً من الكثافة السكّانيّة في المدن القديمة، ولم تستطع جذب السكّان إليها، بحسب الباحث الهولّنديّ في المدن الحضريّة المصريّة ديفيد سيمز لـ"المونيتور".
يتابع سيمز بالقول إنّ الإفراط في البناء خلال الأعوام الأخيرة من الحكومة والقطاع الخاصّ، وارتفاع أسعار الوحدات السكنيّة أدّيا إلى ظهور بوادر ركود في القطاع العقاريّ الذي يساهم بنسبة 16,4% من إجمالي الناتج المحلّيّ.
يوضح المهندس والباحث المعماريّ طارق بدراوي لـ"المونيتور" أنّ ارتفاع الأسعار في مدينة العلمين الجديدة، والتي تصل إلى 42 ألف جنيه (2560 دولار) للمتر الواحد، ستكون باهظة على المشتريين الجدد، وحتى أغلى من الأسعار في القاهرة الجديدة، حيث لا يتخطى سعر المتر 11 ألف جنية (672 دولار).
ليست مدينة العلمين المثال الوحيد، فعلى الجانب الشرقيّ من مدينة بني سويف، في وسط مصر، موّلت الحكومة بناء مدينتين (ابن بيتك1 وابن بيتك 2) ضمن المشروع الرئاسيّ الضخم لمبارك تحت مسمّى"ابن بيتك" في عام 2008، وعلى الرغم من مرور 11 عاماً على بناء هاتين المدينتين في قلب الصحراء واللتين شكّلتا أحلام آلاف الأسر بالعيش في مجمّعات سكنيّة متطوّرة، إلّا أنّهما تحوّلتا إلى مدن أشباح تغطّيها الأتربة ولا يسكنها أحد. وتفتقد المدينتان المكوّنتان من 6 آلاف وحدة سكنيّة، إلى البنية التحتيّة اللازمة من صرف صحّيّ وطرقات تربطها بالمدن القريبة ومواصلات، إضافة إلى غياب المحلّات التجاريّة والمدارس التي نسيت الحكومة أن تضيفها إلى المشروع السكنيّ، وفق الرجب بكري، صاحب أحد المنازل التي حصل عليها من الحكومة في عام 2008 في مدينة "أبني بيتك 2" ببني سويف لـ"المونيتور".
يشير بكري، الذي يعمل إمام مسجد، إلى أنّه فقد الأمل تقريباً في أن ينتقل إلى مسكنه الجديد في مشروع "ابن بيتك"، مع تعنّت السلطات المتعاقبة بعد مبارك، في استكمال خدمات في المشروع تسمح لهم بالانتقال إليه، على الرغم من المطالب الملحّة والتظاهرات المتتالية.
ويشرح سيمز أنّه مثل المدن الجديدة التي تبنيها الحكومة، فإنّ مشروع "ابن بيتك" لمبارك أنشئ من أجل تخفيف الضغط على المدن القديمة وسحب المواطنين من وادي النيل إلى الصحراء، لكنّ هذا لم يحدث.
على الأطراف الجنوبيّة للقاهرة، تنتشر العديد من الـ"كومبوندات" والمدن الصغيرة المبنيّة حديثاً، لكن من دون سكّان يذكرون. من خلال جولة في هذه المنطقة، يمكن اكتشاف أنّ مشاريع مثل حي المخابرات ومدينة حدائق أكتوبر والحيّ الإسبانيّ وحيّ التوسّعات الشماليّة، التي تنفّذها شركات خاصّة بتوجيهات من هيئة المجتمعات العمرانيّة، قد ولدت ميتة.
يضيف سيمز: "هناك طفرة معماريّة في مصر منذ عام 2014، إذ إنّ هناك 21 مدينة جديدة تبنيها الحكومة والقطاع الخاصّ حول البلاد، 7 منها حول القاهرة"، موضحاً أنّ العديد من المدن الجديدة التي بنتها مصر أخيراً، لا تزال من دون سكّان أو يسكنها بضعة أسر قليلة مثل قنا الجديدة والفيوم الجديدة وتوشكى الجديدة وسوهاج الجديدة والإسماعيليّة الجديدة، إضافة إلى عشرات الـ"كومبوندات" التي تحيط بالقاهرة.
تعمل الشركة العقارية لأحمد سيّد على تنفيذ مشروع "كمبوند المستثمرين"، في شمال مدينة 6 أكتوبر منذ عام 2017، بالتعاون مع العديد من الشركات الخاصّة. وعلى الرغم من مرور عامين، إلّا أنّه يواجه صعوبة في تسويق مشروعه بسبب عدم ثقة المشترين الذين يلاحظون أنّ الـ"كومبوندات" المحيطة من دون سكّان وخدمات. يبيّن سيّد لـ"المونيتور" أنّ "المشتري يزور الموقع ليجد أنّ المدن المحيطة خالية من السكّان، فيتراجع عن قراره بالشراء خوفاً من أنّ مشروعنا يواجه المصير نفسه"، لافتاً إلى أنّ الشركة لم تتمكّن سوى من تسويق ربع المشروع خلال عامين، على الرغم من التسهيلات الضخمة التي تقدّمها الشركة إلى المشترين.
يعترف سيّد الذي طالب بعدم الإفصاح عن اسم شركته، بأنّ الأحياء الجديدة تأخذ وقتاً طويلاً من أجل الحصول على الخدمات اللازمة للسكن، لكنّه يحمّل جهاز مدينة 6 أكتوبر، وليس القطاع الخاصّ، مسؤوليّة توفير كلّ هذه الخدمات.
وعلى الرغم من هذه الـ"كومبوندات" الخالية، بدأت الحكومة بالتعاون مع مجموعة العربيّة القابضة في بناء مدينة "صن كابيتال" على بعد أقلّ من كيلومتر، في نيسان/أبريل الماضي.
يوضح بدراوي أنّ التصميم المعماريّ الذي تتبنّاه مصر يواجه العديد من المشاكل، فحتّى وإن أكملت الدولة البناء ورصف الطرق في هذه المدن الجديدة والـ"كومبوندات"، إلّا أّن هذه المشاريع تعاني من غياب وسائل مواصلات منتظمة، إضافة إلى غياب الوظائف للأهالي المقيمين في هذه المدن الجديدة والـ"كومبوندات"، ونقص المستشفيات والخدمات التجاريّة.
وعلى الرغم من الطفرة المعماريّة، إلّا أنّ المدن الجديدة فشلت في هدفها الرئيسيّ وهو سحب المواطنين من المدن الرئيسيّة المكتظّة بالسكّان. يبيّن سيمز أنّه على سبيل المثال، زاد عدد سكّان القاهرة الكبرى بين عامي 2006 و2016، من 16 مليون إلى 22.5 ملايين نسمة، وفي هذه الفترة نفسها، كلّ المدن الجديدة لم تستقبل سوى 770 ألف شخص بحسب نتائج الجهاز المركزيّ للتعبئة العامّة والإحصاء، في ما يعادل استيعاب 14% فقط من هذه الزيادة، بينما الباقي تحمّلته القاهرة، لا سيّما مناطقها العشوائيّة.
يشير سيمز إلى أنّ هناك مبالغات كبيرة في تقديرات الحكومة لعدد سكّان المدن الجديدة الكبيرة، موضحاً أنّ هيئة التجمّعات العمرانيّة تقول إنّ عدد سكّان مدينة 6 أكتوبر، على سبيل المثال، يبلغ 2.9 ملايين نسمة، في حين أنّ إحصاءات الجهاز المركزيّ للتعبئة العامّة والإحصاء في تعداد أيلول/سبتمبر 2017، تكشف أنّ عددهم لا يزيد عن 349 ألف نسمة، وهو اختلاف كبير.
يشكّك سيمز أيضاً في قدرة الدولة على توفير الأعداد الهائلة التي ترغب الحكومة في نقلها إلى العاصمة الإداريّة الجديدة بسبب المساحة الشاسعة للمدينة، وتباعد أحيائها السكنيّة، موضحاً أنّ عمليّة البناء في العاصمة الجديدة عشوائيّة، مضيفاً: "الحكومة خصّصت أراضٍ للشركات الخاصّة التي تسوّقها وتبنيها على شكل "كومبوندات" متباعدة وغير متجانسة".