وجّهت الحرب السوريّة المستمرّة منذ سبع سنوات ضربة بالغة للاقتصاد في المحافظات التركية الواقعة على الحدود [مع سورية]، إلاّ أن [الحرب] قد صنعت اقتصادًا وتجّارًا خاصين بها كما هي الحال غالبًا في الحروب. زادت نسبة الصادرات التركية منذ أن استولت الفصائل المسلّحة على الجانب السوري للمعابر الحدودية في العام 2013، منتفعةً أيضًا من التدخل العسكري التركي في شمال سورية.
بعد أن نشبت الحرب، تراجعت التجارة بين البلدين إلى أدنى مستوياتها في العام 2012، فتدنّت [قيمة] الصادرات التركية إلى 501 مليون دولار وكذلك وارداتها من سورية إلى 67 مليون دولار. لكن عندما كانت العلاقات [الثنائية] لا تزال مزدهرة في العام 2010، بلغت قيمة الصادرات التركية حوالي 1.85 مليار دولار، في حين بلغت [قيمة] الواردات 663 مليون دولار. أما في العام الماضي، فقد بلغت [قيمة] الصادرات التركية إلى سورية حوالي 1.4 مليار دولار، في الوقت الذي وصلت فيه [قيمة] الواردات من سورية — والتي تخضع إلى إذن رسمي — إلى 71 مليون دولار فقط. يدلّ متوسط الصادرات في السنوات الثلاث الماضية — والبالغ 1.3 مليار دولار — على نموّ ملحوظ في المبيعات التركية إلى سورية، في الوقت الذي لم يترافق ذلك مع ارتفاع في الواردات التي لا يتخطّى متوسطها 70 مليون دولار.
تصدّر تركيا إلى سورية بشكل أساسي زيت الطهي، والدقيق ومنتجات الطحين، والاسمنت، والحديد والفولاذ، ومنتجات التنظيف والنظافة الشخصيّة، والدواجن والسيارات. وعلى الرغم من تواضع المستوى التجاري، تبقى تركيا المورّد الرئيسي الى سورية، كما تصل أكثر من نصف الواردات السورية من تركيا والصين. بالإضافة إلى ذلك، تحتل تركيا المرتبة الرابعة من حيث البلدان التي تشتري السلع السورية ومنها القطن، والفاكهة والخضراوات، وزيت الزيتون ومنتجات النحاس والألمنيوم بشكل رئيسي.
صرّح ممثلون عن غرف الصناعة والتجارة في غازي عنتاب وكلز الواقعتين على الحدود مع سورية لموقع المونيتور بأنّ المناطق التي وقعت تحت السيطرة التركية في خلال عملية درع الفرات، فضلاً عن المناطق المحيطة بها، هي وجهة السلع التركية بشكل أساسي، وتتضمّن أعزاز والباب وجرابلس وتل أبيض ومنبج وريف حلب. كما تتوفّر غالبًا السلع التركية في مدينة حلب أيضًا.
ومن بين 13 معبرًا حدوديًا مع سورية، تتركّز الحركة التجارية عبر معبر "جلوه غوزو" في محافظة هاتاي ومعبر "أونجو بينار" في كلز ومعبري "كاركاميش" "وجوبان باي" في غازي عنتاب. وعلى الرغم من الانقطاع المستمر في العلاقات الرسميّة بين البلدين، تُشحن من حين الى آخر بعض البضائع التركية من ميناء "طاشوجو" في مرسين إلى ميناء طرطوس في سورية.
وتبقى المعابر الحدودية في جزيرة ابن عمر، ونصيبين، وشنيورت، وجيلانبينار، وأقجه قلعة، ومرشدبينار، وإصلاحية، ويايلاداغي وكربياز — الواقعة تحت سيطرة الفصائل الكرديّة أو النظام عند الجانب السوري — مغلقة.
وفي ظلّ انقطاع العلاقات الدبلوماسية واستمرار سيطرة الفصائل المسلّحة على المعابر الحدودية النشطة في سورية، تُدار التجارة بين البلدين بطرق غير تقليدية.
ففي حين تُطبّق الإجراءات الجمركية الرسمية عند الجانب التركي، ينفّذ "الضباط" الذين تم تعيينهم من قبل الفصائل المسلّحة إجراءاتهم الخاصة عند الجانب السوري. يتم تسليم البضائع على المعابر في المناطق العازلة، فتقوم الشاحنات التركية بتفريغ حمولتها في المناطق العازلة قبل أن تعود أدراجها، ويقوم التجار السوريون الذين يستلمون الحمولة بنقل السلع إلى مناطقهم في مركبات سورية. أما الدفع فيتمّ نقدًا، إمّا مسبقًا وإمّا عند التسليم في المناطق العازلة، وذلك بسبب استحالة التحويلات المصرفية.
ارتفع عدد السوريين المقيمين في تركيا الذين يعملون في مجال التجارة [بين البلدين]، وباتت [تجارتهم] تشكّل بين 20 و30% تقريبًا من مجمل الصادرات إلى سورية.
لقد تسجّلت رسميًا في غازي عنتاب 1,854 شركة يملكها سوريون وذلك حتّى شهر أيار\مايو، وتتضمّن 1,425 شركة مسجّلة لدى غرفة التجارة، و355 شركة مسجلة لدى غرفة التجّار والحرفيين و74 شركة لدى غرفة الصناعة. وفي غرفة التجارة والصناعة في كلز، نجد 140 شركة ورجل أعمال سوريين من أصل 1,400 عضو. وقد تم تسجيل حوالي 30% من الشركات السورية للعمل في مجال الاستيراد والتصدير. وفي غازي عنتاب وحدها، ارتفع عدد تصاريح العمل المقدّمة للسوريين من 700 في العام 2015 إلى 3,000 في العام 2017، كما وصل عدد التصاريح إلى 1,227 في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.
تشير الأرقام إلى نجاح السوريين في الانخراط في الحياة التجارية في تركيا. وبهدف تسهيل العملية التجاريّة، أطلقت غرفة الصناعة في غازي عنتاب مراكز تدريب مهنية. ومع ذلك ، يستمر السوريون في مواجهة أوقات عصيبة مع المصارف والمؤسسات المالية الأخرى، إذ تخضع معاملاتهم إلى فحص دقيق، وعلى الأخص عند إجراء تحويلات لدفع ثمن السلع المستوردة. ناهيك عن أنّ عمليّة الاستحصال على تصاريح العمل تتطلّب وقتًا طويلًا.
ولمّا كان شكل التجارة الحاليّة غير تقليدي، يستفيد التجار السوريّون المقيمون في تركيا من مزايا خاصّة في تصدير السلع إلى سورية، إذ باستطاعتهم تسليم السلع إلى الأقارب أو غيرهم من الأشخاص الموثوق بهم في المناطق العازلة، وذلك بفضل شبكة [معارفهم] الحالية في سورية، مما يحدّ من مشكلة تحويل الأموال في العمليّات التي يجري فيها غالبًا تسليم البضائع قبل سداد الكلفة المتوجّبة.
يشكّل الاستحصال على إذن رسمي — والذي تفرضه السلطات التركية من أجل الاستيراد من سورية – مشكلة أخرى. فما من سلطة جمارك في كلز — حيث يفوق عدد اللاجئين السوريين عدد السكان المحليين — فيضطرّ مصدّرو السلع إلى سورية لنقل البضائع إلى غازي عنتاب المجاورة أولاً ومن ثم الرجوع إلى المعبر الحدودي في محافظتهم.
هل يمكن تحقيق أرقام أعلى على مستوى التجارة في ظل الظروف الحالية؟
يرى كينان مورتان، الخبير الاقتصادي التركي الذي يراقب عن كثب الوضع الاقتصادي في المناطق الحدودية، أنّ تحقيق مزيد من التوسّع التجاري أمر غير محتمل طالما أن الحرب في سورية مستمرة.
وقال للمونيتور "لقد جلب المهاجرون السوريون الأثرياء رؤوس أموال واستثمروا [في تركيا]. أودّ أن أشير الى أن المهارة التي يتمتع بها أهل غازي عنتاب في مجال الأعمال والتي تعود إلى القرن الخامس عشر كانت جدّ فعّالة. لكن يجب ألا نتوقّع زيادة إضافيّة في الأرقام".
وتابع قائلًا، "لا يمكن تخطّي المستوى الحالي إلاّ في حال عودة السلام. ولا يقتصر ذلك على انتهاء القتال بل يشمل أيضًا تطبيع العلاقات التركية السورية". وأضاف أنّ توسّع التجارة يتطلّب وضع حدّ للمشاكل المصرفيّة وعودة العلاقات بين المصارف المركزية وتمكين المحاكم المحلية لتسوية القضايا القانونية في مجال التجارة بين البلدين.
يشعر رجال الأعمال في المناطق الحدودية بالتأكيد بحنين كبير إلى الفترة التي امتدّت بين عامي 2007 و2011، عندما كانت العلاقات التركية السورية تسير على الطريق الصحيح وبدأت تتطوّر.
كما يشتاق كثيرون من السكان المحليين الذين اعتادوا كسب رزقهم من خلال تهريب البضائع عبر الحدود إلى عهد سلف. أما الآن، فبُنيَت جدران أمنية، وقال مسؤول في غرفة التجارة والصناعة في كلز للمونيتور إن عمليات التهريب باتت شبه معدومة.
أما على صعيد المعابر الحدودية التي يسيطر عليها الأكراد عند الجانب السوري، فهي لا تزال مغلقة، ما يمنع أي ازدهار إضافي في التجارة. فقد أغلقت الحكومة التركية المعابر لتفادي ما قد يترتّب على شرعنة "الحكم الذاتي الديمقراطي" للأكراد في شمال سورية، ولمعاقبة الأكراد بشكل من الأشكال. إلاّ أنها أضعفت بهذا الإجراء الاقتصاد في محافظاتها الحدودية حيث كان الفقر غالبًا بالأساس.
لا شكّ في أنّ انتهاء الحرب السورية وتطبيع العلاقات سيعزّزان الحركة التجارية بشكل هائل. ويتطلّع رجال الأعمال في تركيا — كما المسؤولون الحكوميون — إلى إعادة الإعمار في سورية، مما سيولّد ارتفاعًا كبيرًا في الطلب. لكن لكي تتحقّق هذه التوقعات، تحتاج تركيا إلى إدخال تغيير جذري على سياستها تجاه سورية وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية.