القاهرة – في عام 1988، أطلق السيناريست الإسكندريّ أسامة أنور عكاشة والمخرج محمّد فاضل رائعتهما مسلسل "الراية البيضا"، وبشّر ذلك العمل الفنيّ بصراع قريب بين الفنّ والثقافة من جهة، وبين التخلّف والهمجيّة المدعومين بالثروة وأحياناً السلطة من جهة أخرى، من خلال قصّة سيّدة أميّة ذات ثروة طائلة ونفوذ واسع في محافظة الإسكندريّة تسعى إلى الاستيلاء على قصر عتيق لهدمه وإحلاله ببرج سكنيّ ضخم يدرّ لها المزيد من الثروة.
وقد شهدت الإسكندريّة في الأعوام الماضية هدماً متكرّراً لقصور مماثلة، بما في ذلك القصر في الإسكندرية التي كانت مصدر وحي للكاتب الإنجليزي لورانس داريل، مؤلف "رباعية الإسكندرية". وقد دفع ذلك ببعض النشطاء إلى إطلاق حملة "عمارة البلد"، خلال شباط/فبراير وآذار/مارس من عام 2018، لحماية ما تبقّى من تلك القصور والعمائر الأثريّة من الهدم باعتبارها تعبّر عن ثروة مصر المعماريّة. وتهدف الحملة إلى نشر الوعي حول المباني القديمة في مصر عن طريق إنشاء موقع على شبكة الإنترنت يكون بمثابة أرشيف للتراث التاريخي والمعماري.
البداية
أعلنت شركة "ولاد البلد للخدمات الإعلامية" في 6 شباط/فبراير من عام 2018 عن انطلاق حملة "عمارة البلد: هويّة لا تستحق الهدم" بين 11 شباط/فبراير و11 آذار/مارس، في كلّ محافظات مصر برعاية شركاء إعلاميّين، على رأسهم جريدة "المصريّ اليوم" وموقعا "مصراوي" و"العين" الإماراتيّ وعدد من الشركاء التنمويّين مثل مؤسستيّ "مصر الخير" و"الورشة" و"مكتبة التراث الإسلاميّ".
ولفتت مديرة الشركة فاطمة فرج في تصريحات خاصّة لـ"المونيتور" إلى أنّ موقع "ولاد البلد" يقوم في الأساس على صحافة المواطن، أيّ أنّ المواطن هو من يقوم بتقديم المحتوى إلى الموقع بدعم من إدارته التحريريّة من خلال توفير التمويل والوسائل التي يحتاج إليها والتدريب الذي يتطلّبه، مشيرة إلى أنّ أسلوب الحملة هو الأسلوب السابق نفسه، حيث نظّمت "ولاد البلد" دورات تدريبيّة عدّة للمواطنين الراغبين في العمل كمحرّرين ومصوّرين لصالح الحملة الصحافيّة والإعلاميّة للحفاظ على التراث المعماريّ في مصر.
وعن أعمال الحملة وما حقّقته من إنجازات، قالت: "انقسم المواطنون الذين تلقّوا التدريب إلى مجموعات عدّة، فالمجموعة الأولى ساعدتنا على تحضير أرشيف كامل بكلّ الأبنية التراثيّة داخل كلّ محافظة في مصر، وساعدتنا في تقديم حكاية كلّ بناء من تلك الأبنية من خلال محتوى موقعنا "ولاد البلد". أمّا المجموعة التي تمّ تدريبها على التصوير فنجحت في تحضير أرشيف صور كامل لتلك الأبنية، وقدّمت مجموعة ثالثة تمّ تدريبها على تقنيات مواقع التواصل الاجتماعيّ حملة توعية على تلك الأبنية من خلال تلك المواقع. وأخيراً، نظّمت مجموعة رابعة ندوات ولقاءات عدّة مع متخصّصين بالقضيّة لتفجيرها على أعلى مستوى".
وقدّمت حملة "عمارة البلد: هويّة لا تستحقّ الهدم" من خلال موقع "ولاد البلد" ما يزيد عن 130 مادّة إعلاميّة حتّى 7 آذار/مارس، ما بين تقارير صحافيّة عن تاريخ الأبنية التراثيّة وتحقيقات استقصائيّة وألبومات صور. كما قدّمت عشرات الندوات في مختلف محافظات مصر، كان أبرزها ندوة 5 آذار/مارس، التي حضرها كلّ من الإعلاميّ المصريّ البارز أحمد المسلماني ومديرة البرامج والعلاقات في المجلس العالميّ للمتاحف فرانس ديماري، وحظيت الندوة بتغطية إعلاميّة متميّزة، وفي ختام فعاليات الحملة، يوم 11 مارس، قدم فريق عمل الحملة فيلما وثائقيا عن التراث المعماري التاريخي لمصر وقيمته وضرورة حمايته.
التراث والأثر
قال المصمّم المعماريّ وخبير التطوير الاستراتيجيّ والعمرانيّ للمناطق التاريخيّة والمتدهورة عمرانيّاً أحمد صدقي لـ"المونيتور": إنّ العمائر والأبنية المنتمية بغالبيّتها إلى القرن العشرين في مصر مهددّة بالهدم، لأنّ القوانين المصريّة لا تعترف بدخول أيّ بناء ضمن الآثار إلاّ بعد بلوغه الـ100 عام.
وأشار إلى أنّ هناك قصوراً وعمارات وأبنية عدّة أتمّت الـ70 والـ80 والـ90 عاماً يجب الحفاظ عليها لأنّها "تحف معماريّة وتستوحي قيمتها من كونها تحفة معماريّة. ولا بدّ من الحفاظ عليها حتّى لو لم تكن أثراً"، وقال: إنّ العديد من تلك الأبنية هو ملكيّة شخصيّة لمواطنين يقومون بهدمها لبناء أبراج سكنيّة وتجاريّة ضخمة مثل ما حدث مع قصر "حافظ عفيفي باشا"، رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق وقصر "أمبرون"، حيث عاش الكاتب الإنجليزي لورانس داريل، مؤلف "رباعية الإسكندرية" في الأربعينيات، داعياً الدولة إلى سنّ قانون يضع تلك القصور تحت تصرّفها وتعويض الملاّك. من جهته، أشار عضو لجنة الشباب في مجلس النوّاب محمّد فرج عامر في حديث لـ"المونيتور" إلى أنّ الدولة تناقش مشروع قانون يهدف لحماية هذه القصور.
ردود الأفعال
أمّا فرانس ديماري فلفتت في تصريحات خاصّة لـ"المونيتور"، على هامش ندوة "عمارة البلد"، إلى أنّها تتوقّع أن تحظى حملة "عمارة البلد" باهتمام عالميّ، وأنّها ربّما تستطيع الحصول على تمويل من بعض المؤسّسات العالميّة مثل صندوق التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق الصراع ويملك الصندوق تمويلاً سنويّاً يقدّر بـ100 مليون دولار.
بدورها، أشارت رئيسة قسم التحقيقات والتراث في مؤسّسة "ولاد البلد" أميرة النشقاني في حديث لـ"المونيتور" إلى أنّها تلاحظ اهتمام العديد من المؤسّسات الرسميّة وغير الرسميّة بالحملة، وأنّها تتمنّى أن يستخدم المسؤولون أرشيف الحملة كمادّة علميّة وأرشيف لتتبع الأبنية والقصور التراثيّة لحمايتها من الهدم.