في تركيا، تخضع جميع وسائل الإعلام المطبوعة تقريباً لرقابة مشدّدة من الرئيس رجب طيب أردوغان. ولهذا السبب، تصوَّر كلّ رحلة رئاسيّة إلى الخارج على أنّها انتصار عظيم، بما في ذلك رحلة أردوغان مؤخّراً إلى باريس.
وأشار المفكّر التركيّ البارز والعميد السابق في جامعة "سوربون" في باريس، أحمد إينسل، في 8 كانون الثاني/يناير إلى أنّ "الإعلام الموالي للحكومة رحّب بطيب أردوغان بصيحات النصر عند عودته" من باريس. ورأى إينسل أوجه شبه بين الترحيب الحارّ الذي لقيه أردوغان عند عودته والترحيب الحارّ الذي لقيه رئيس الوزراء الفرنسيّ السابق إدوار دلادييه عند عودته إلى باريس بعد توقيع معاهدة ميونخ المثيرة للجدل سنة 1938. وقال إنّ دلادييه "كان يتوقّع احتجاجات عند عودته إلى بلده، لكنّ الحشود رحّبت به بالهتافات على المدرج". وفكّر دلادييه في قرارة نفسه آنذاك: "أغبياء! لو يعلمون".
وكتب إينسل أنّ أفكاراً مماثلة خطرت ربّما على بال أردوغان أثناء مخاطبته للحشود التي استقبلته بالهتافات.
وكان الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون صريحاً وبعيداً عن الدبلوماسيّة في تصريحه حول اجتماع 5 كانون الثاني/يناير مع أردوغان. ووفقاً لما نقلته شبكة "بي بي سي" عن الخطاب، قال ماكرون: "آن الأوان لوقف الخبث المتمثّل بالادّعاء بأنّ هناك فرصاً للتقدّم في محادثات تركيا مع الاتّحاد الأوروبيّ المتعلّقة بالعضويّة".
وبحسب الخبير في الشؤون التركيّة في صحيفة "لو موند"، مارك سيمو، كان ماكرون "صريحاً" مع أردوغان، الذي أجرى الزيارة من أجل جسّ النبض بشأن مساعي تركيا من أجل الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ. وأشار سيمو إلى أنّ ماكرون اقترح "شراكة" عوضاً عن عضويّة كاملة في الاتّحاد الأوروبيّ، مشدّداً على أنّ التطوّرات الأخيرة في تركيا لا تسمح بأيّ تطوّر في المساعي التركيّة المتعثّرة منذ وقت طويل.
وتبيّن هذه التقارير أنّ ماكرون كرّر عروض الرئيس الفرنسيّ السابق نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانيّة الحاليّة أنغيلا ميركل. لكنّ ماكرون لم يحاول حتّى تلطيف الصفقة، واصفاً العرض بأنّه شراكة "ذات امتيازات". ولم تحبّذ تركيا هذه الفكرة يوماً لأنّها تعتبر العرض "عضويّة من الدرجة الثانية في أوروبا".
لكنّ مواقف ساركوزي وماكرون غير متشابهة، بحسب إينسل. فقد أراد ساركوزي إغلاق الأبواب الأوروبيّة في وجه تركيا بسبب الاختلافات الدينيّة والثقافيّة والديمغرافيّة. أمّا ماكرون فأشار إلى الانتهاكات التركيّة الأخيرة في مجال حقوق الانسان وشدّد على أنّ أنقرة لا تستوفي معايير كوبنهاغن – الشرط الأساسيّ لمفاوضات الانضمام.
وكتب سفير الاتّحاد الأوروبيّ السابق في تركيا، مارك بييريني، على "تويتر" في 5 كانون الثاني/يناير أنّ زيارة أردوغان لماكرون "أظهرت فقدان تركيا للمصداقيّة الدوليّة إلى حدّ كبير بسبب التفكيك الصارخ لحكم القانون. وإنّ كلام أنقرة – "حكم القانون موجود في تركيا" [و] "تركيا تستوفي جميع المعايير الأوروبيّة - لا يؤدّي إلى أيّ نتيجة".
وبدا الباحث العربيّ سامي مبيّض متشائماً بدوره. فقد كتب مؤخّراً أنّ الزيارة "تضع حدّاً – بشكل نهائيّ تقريباً – لطموحات أردوغان الأوروبيّة... لقد توقّع أن يحصل ذلك، ولذلك يخصّص منذ فترة الوقت والجهد بسرعة لبناء علاقات في أماكن أخرى – في السودان والصومال وتشاد وفي العالم العربيّ والإسلاميّ".
لكن هل سيكون بناء الجسور مع السودان وتشاد وأمم عربيّة وإسلاميّة أخرى كافياً لسدّ فراغ الاتّحاد الأوروبيّ؟ طبعاً لا.
وأضاف مبيّض: "استغلّ أردوغان، ململماً جراحه بعد رفض ماكرون، الفرصة للتقرّب أكثر من الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، مدركاً أنّه بذلك يثير سخط الدول الأخرى الأعضاء في حلف شمال الأطلسيّ".
لكنّ مستقبل العلاقات بين أنقرة وموسكو يبدو غامضاً أيضاً، كما تبيّن الخلافات الأخيرة حول الأكراد السوريّين. وليست العلاقات التركيّة الأميركيّة أفضل حالاً. وبالتالي، يُعتبر قرار ماكرون "بوقف الخبث" مهمّاً للغاية بالنسبة إلى تركيا. فإقصاء تركيا عن أوروبا قد يكون له تداعيات استراتيجيّة في ما يتعلّق بالرأي العامّ التركيّ بما أنّ رغبة الشعب في الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ هي ربّما بارقة الأمل الوحيدة في البلاد حالياً.
وبالفعل، أجرى وقف التنمية الاقتصاديّة، وهو هيئة تمارس الضغط من أجل انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبيّ، مسحاً في تشرين الثاني/نوفمبر خلص إلى نتائج مذهلة في هذا الخصوص. فبحسب المسح، يؤيّد 78,9% من المجتمع التركيّ حصول تركيا على عضويّة كاملة في الاتّحاد الأوروبيّ. يشار إلى أنّ هذه النسبة كانت 61% فقط قبل سنتين.
وشكّلت نتائج المسح مفاجأة حتّى لمنظّمي الاستطلاع. وقال رئيس وقف التنمية الاقتصاديّة أيهان زيتين أوغلو لإذاعة "دويتشه فيله" الألمانيّة: "إنّ رؤية زيادة في نسبة تأييد العضويّة في الاتّحاد الأوروبيّ على الرغم من ابتعاد تركيا سياسيّاّ عن الاتّحاد الأوروبيّ خلال العام 2017 لم تكن متوقّعة".
لكنّ هذه النتيجة لا تغيّر الواقع السياسيّ في تركيا. فالاتّحاد الأوروبيّ يغلق أبوابه في وجه تركيا في مطلع العام 2018، وستبقى هذه الأبواب مغلقة بإحكام إلا إذا عادت تركيا إلى الحوكمة الديمقراطيّة.