بعد يومين على قيام حارس بالسّفارة الإسرائيليّة بإطلاق النّار على أردنيّين وقتلهما يوم 23 تموز/يوليو في ما تبيّن أنّه خلاف بشأن تركيب أثاث غرفة نوم في شقّة المهاجم، قام أحد الضّيوف في برنامج حواري تعرضه المحطّة التّلفزيونيّة الأردنيّة التي تديرها الدّولة، بوصف إسرائيل بأنّها "الكيان الصّهيوني المغتصب". وإنّ هذه الحدّة العلنيّة تجاه إسرائيل تجاوزت حتّى الحقد المعتاد الموجّه غالبًا إلى الدّولة اليهوديّة والذي يمكن سماعه على محطّات التّلفزيون والراديو الخاصّة وقراءته على منصّات وسائل التّواصل الاجتماعي والمواقع الإخباريّة المحليّة.
يتصاعد الخطاب المعادي لإسرائيل منذ أزمة الحرم الشريف التي اندلعت في القدس الشّرقية المحتلّة يوم 14 تموز/يوليو في أعقاب إطلاق نار في محيط المسجد. وإنّ إقفال إسرائيل للمسجد الأقصى طوال يومين، وهو أمر جرى آخر مرّة في العام 1969، وما أعقب ذلك من تركيب لأجهزة الكشف عن المعادن عند أبواب المجمّع، أثار غضب الفلسطينيّين وكذلك استفزّ الأردنيّين الذين يتمتّع نصفهم تقريبًا بجذور فلسطينيّة. وقد فشلت التّدخّلات المتكرّرة من كبار المسؤولين الأردنيّين، بمن فيهم الملك عبد الله نفسه، في تغيير موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وتتواصل الاشتباكات اليوميّة في البلدة القديمة بالقدس بين الفلسطينيّين الغاضبين والجنود الإسرائيليّين منذ 21 تموز/يوليو، عندما رفض موظّفو دائرة الأوقاف الإسلاميّة الأردنيّة – المسؤولة عن شؤون المقدّسات في القدس الشّرقيّة - دخول المجمع إلى أن تزيل إسرائيل أجهزة الكشف عن المعادن وجميع القيود الأخرى التي فرضتها. وبحلول 23 تموز/يوليو، كان قد لقي ثلاثة فلسطينيّين وثلاثة مستوطنين إسرائيليّين على الأقلّ مصرعهم في حوادث متفرّقة.
بدت جهود الأردن لحلّ الأزمة في القدس غير ناجعة، واعتُبِرت التحرّكات الإسرائيليّة مدفوعة من الوزراء المتشدّدين في حكومة نتنياهو الذين اعترضوا على دور الأردن الخاصّ في الإشراف على المقدّسات الإسلاميّة في الحرم الشريف وكانوا يضغطون من أجل السّماح بدخول المصلّين اليهود إلى المسجد الأقصى الذي يعتبره اليهود أيضًا من المقدّسات ويطلقون عليه اسم جبل الهيكل.
لكن جرت بعد ذلك حادثة مجمع السّفارة الإسرائيليّة، وكان ذلك تحوّلاً غير متوقّع للأحداث هزّ الحكومتين في الأردن وإسرائيل. طوّق الأمن الأردني السّفارة ومنع موظّفيها، بمن فيهم المهاجم، من المغادرة، وعلى الرّغم من حصانته الدّبلوماسيّة، أصرّت عمان على استجواب حارس الأمن الإسرائيلي الذي جرى التّعريف عنه لاحقًا باسم "زيف" فحسب.
ما جرى في السّاعات الـ24 اللّاحقة لا يزال غير واضح، ولا تتمتّع أيّ من الحكومتين بتفاصيل دقيقة. لكن بحسب ما أفادت به مصادر إسرائيليّة، يبدو أنّ نتنياهو طلب المساعدة من إدارة ترامب، بعد أن عجز عن الاتّصال بالملك عبدالله الذي كان في زيارة خاصّة إلى الولايات المتّحدة. وبحسب الإعلام الإسرائيلي، تدخّل صهر ترامب، جاريد كوشنر، وتواصل مع العاهل الأردني. وفي وقت متأخّر من ليلة 24 تموز/يوليو، جرى إجلاء طاقم عمل السّفارة الإسرائيليّة كاملاً من الأردن. وقالت مصادر أردنيّة إنّه سُمِح للموظّفين بالمغادرة بعد الاستماع إلى شهادة حارس الأمن الإسرائيلي، في حين لم تُعطَ تفاصيل إضافيّة.
وفي ذلك المساء أيضًا، أفادت وسائل الإعلام الأردنيّة بأنّ الملك عبدالله ونتنياهو تحدّثا على الهاتف وناقشا سبل نزع فتيل الأزمة في الأقصى. وفي وقت لاحق من ذلك المساء، أعلنت إسرائيل عن قرار لجنة وزراء الشّؤون الأمنيّة إزالة أجهزة الكشف عن المعادن عند مدخل الحرم الشريف.
تسبّب الإفراج عن موظّفي السّفارة الإسرائيليّة بإغضاب الأردنيّين في كافّة أنحاء المملكة. واشتعل تويتر وفيسبوك بالإهانات ضدّ إسرائيل والانتقاد الموجّه إلى كيفيّة تعامل الحكومة الأردنيّة مع المسألة. وقد هاجمت المواقع الالكترونيّة المحليّة الحكومة بسبب خضوعها لإسرائيل والسّماح بخروج القاتل حرًّا طليقًا. ولم يقبل كثيرون نسخة الحكومة عن الحادثة بأنّ الشاب الأردني محمد الجواوده الذي يبلغ من العمر 17 عامًا، هاجم الدّبلوماسي الإسرائيلي بمفكّ براغي، وشكّك كثيرون بالظّروف الغامضة المحيطة بمقتل الرّجل الثّاني – الطّبيب الأردني بشار حمارنة، الذي كان أيضًا صاحب العقار.
شارك آلاف الأردنيّين يوم 25 تموز/يوليو في تشييع الجواوده الذي جاءت عائلته أساسًا من الخليل في الضّفّة الغربيّة، هاتفين شعارات "الموت لإسرائيل" و"نحن شهداء الأقصى". وفي اليوم عينه، عقد ثلاثة وزراء في الحكومة مؤتمرًا صحفيًا مع وزير الخارجيّة أيمن الصفدي، وأصرّوا على غياب أيّ اتّفاق مع إسرائيل أو أيّ مقايضة لجهة إطلاق سراح موظّفي السّفارة الإسرائيليّة مقابل إزالة أجهزة كشف المعادن من الأقصى. وقال الصفدي أيضًا إنّ الأردن، التي كان عليها الالتزام بالقانون الدّولي المتعلّق بالحصانة الدّبلوماسيّة، ستواصل اتّخاذ إجراءات قانونيّة ضدّ المهاجم الإسرائيلي في إسرائيل.
إلا أنّ الرّأي العام الأردني لم يكن راضيًا، وطالب أعضاء البرلمان بإقفال السّفارة الإسرائيليّة واستدعاء السّفير الأردني من تل أبيب. وقد اتّهموا الحكومة بالإهمال الجسيم وعجزها عن تقديم رواية مقنعة.
وكان هناك ازدراء إضافي لترحيب نتنياهو العلني بزيف كأحد الأبطال لدى عودته إلى إسرائيل. مع أنّ التوتّرات بشأن الأقصى ربّما تكون قد هدأت الآن، تبقى العلاقات بين إسرائيل والأردن جافّة للغاية. وتجدر الإشارة إلى وقوع عدد من المواجهات الخطيرة بين الطّرفين، بشأن الأقصى بالدّرجة الأولى، منذ التوقيع على معاهدة السّلام منذ 23 عامًا، لكن يبدو أنّ هذه الحادثة هي الأخطر حتّى الآن. وليس نتنياهو وحده من يرزح تحت الضّغط لإنقاذ وظيفته، وتخليص تحالفه اليميني المتشدّد وإنقاذ العلاقات مع الأردن، فالضّغوط كبيرة أيضًا على الحكومة الأردنيّة التي عليها أن تفي بوعدها باتّخاذ إجراءات قانونيّة ضدّ زيف لقتله الرّجلين الأردنيّين.
بعد عودة الملك إلى الأردن في 27 تموز/يوليو، زار أسرة الجواوده لتعزيتهم. وقد ترأس أيضًا اجتماع مجلس السّياسات الوطني الذي يجتمع عادة في الأزمات الوطنيّة. وقال إنّ الدّولة الأردنيّة ستخصّص جميع مواردها لتحقيق العدالة للمتوفّى. ودعا نتنياهو إلى تحمّل المسؤوليّة واتّخاذ خطوات قانونيّة "لإخضاع القاتل للمحاكمة بدلاً من التّعامل مع هذه الجريمة بأسلوب الاستعراض السّياسي بغية تحقيق مكاسب سياسيّة شخصيّة". وقال أيضًا إنّ الطّريقة التي ستتعامل بها إسرائيل مع مسألة السّفارة ومقتل القاضي رائد زعيتر في العام 2014 ستؤثّر على مستقبل العلاقات الثّنائيّة.
وفي اليوم عينه، أفادت جريدة الغد بأنّ مكتب المدّعي العام اتّهم زيف بالقتل، وبما أنّ المهاجم يتمتّع بحصانة دبلوماسيّة، فإن وزارة الخارجيّة ستتابع المسألة لتوجيه الاتّهامات إليه في بلده الخاصّ.
إنّ تصريحات الملك الغاضبة لكن الثّابتة وزيارته إلى بيت عزاء أحد الضّحايا (من المتوقّع أن يقوم بزيارة مشابهة لأسرة الطّبيب المقتول) ستكون موضع ترحيب من الأردنيّين الذين شعروا بالإهانة واستفزّتهم تصرّفات نتنياهو وما اعتبروه سوء تعامل من جانب حكومتهم الخاصّة. لكن مع اندلاع الاشتباكات في الأقصى مجدّدًا في 27 تموز/يوليو، ستأخذ العلاقات الأردنيّة الإسرائيليّة منعطفًا نحو الأسوأ لعدّة أسابيع وربّما أشهر حتّى.