لم تنجو غالبيّة المدن السوريّة من آثار الحرب، الّتي أثقلت بظلالها على البلاد وأثّرت على دمار البنية الإقتصاديّة السوريّة، فمناطق الأكراد في شمال سوريا، الممثلة بالجزيرة وكوباني وعفرين، رغم عدم تعرّضها للقصف إلاّ في ظروف نادرة، شهدت حرباً مع تنظيم "داعش"، لم تجنّبها التعرّض لأزمات إقتصاديّة وارتفاع أسعار الموادّ أحياناً.
ومقابل محاولة الأكراد خلق اكتفاء ذاتيّ وإقتصاديّ لمناطقهم، تعاني المنطقة من صعوبة وصول الموادّ إليها من الداخل السوريّ، (فالبنية الزراعية والنفط مثلا يحتاجان إلى مواد أولية وأساسية كالسماد كما ان هناك بعض المواد الأساسية والأغذية والدواء يجب جلبها من الخارج)، إضافة إلى تحكّم التجّار بالأسعار، مع معاناة إغلاق المعابر الحدوديّة مع تركيا، الّتي تتّهم حزب الإتّحاد الديموقراطيّ الكرديّ المسيطر على المناطق الكرديّة بالتبعيّة لحزب العمّال الكردستانيّ.
ويسيطر الأكراد على مناطق في شمال سوريا في محافظة الحسكة وكوباني وعفرين في حلب منذ عام 2012، بعد أن ترك النظام غالبيّة نقاط تمركزه فيها، ليعتمد الأكراد في تطوير المجتمع الإقتصاديّ على المجالس الشعبيّة من خلال تفعيل دورها.
وفي هذا المجال، قال نائب رئيس هيئة الإقتصاد التابعة للادارة الذاتية الديمقراطية جمال حمو لـ"المونيتور": تعتمد المنطقة على الموادّ القادمة من معبر سيمالكا (الذي يقع بين إقليم كردستان العراق وروج آفا) من إقليم كردستان، "لكنّها تعتبر موادّ إغاثة وليست رسميّة"، فتشريعها يحتاج إلى موافقة حكومتي بغداد ودمشق.
ورأى أنّ عدم وجود منفذ بحريّ يطلّ على مناطق الأكراد في الجزيرة وعفرين وكوباني يعتبر "من نقاط الضعف الّتي تساهم في الحصار من الدول المجاورة والعمق السوريّ".
لقد شكّلت الإدارة الذاتيّة الّتي تأسّست في كانون الثاني/يناير من عام 2014 حكومة على شكل هيئات (يمثّلها أكراد وعرب ومسيحيّون)، وتساهم هيئة التجارة والإقتصاد وموارد النفط والجمارك بحسب حمو في تأمين رواتب نحو 3700 موظّف في الحكومة، وقال: "تبلغ إيرادات هيئة الإقتصاد 175 مليون ليرة سوريّة سنويّاً تتبع لميزانيّة الإدارة الذاتيّة،" على حد وصف حامو.
وأشار إلى أنّ الإدارة شجّعت على الاستثمار في المنطقة لخلق هيكليّة إقتصاديّة وزيادة إيرادات المنطقة. كما أنجزت بعض المشاريع مثل "مشروع معمل زيت الذرة، وأيضاً معامل الأجبان والألبان والمطاحن".
محافظة الحسكة سمّيت بـ"السلّة الغذائيّة" السوريّة، نظراً لوفرة القمح والقطن فيها، ولكن انخفضت الزراعتان في السنوات السابقة بسبب معارك الأكراد و"داعش" وهجرة العديد من أهالي محافظة الحسة. وفي هذا المجال، قال المزارع محمّد خليل لـ"المونيتور": كان إنتاج منطقة الجزيرة سابقاً من مادّة القمح يصل إلى مليون و800 ألف طنّ. وفي العام الماضي، لم تتجاوز الكميّة نصف مليون طنّ.
وعزا حمو ذلك إلى تقليل هامش الزراعة وانعدام الموادّ الأساسيّة مثل السماد، إضافة إلى غلاء الكلفة الزراعيّة، وقال: "ما زال النظام يقوم بشراء إنتاج مادّة القمح من المزارعين، كي توفّر الدولة مادتيّ الطحين والخبز للمحافظات الأخرى".
وعن كيفيّة استمرار تدفّق البضائع في ظلّ الحرب، قال حمو: إنّ من يمكن تسميتهم بـ"سماسرة الحرب" أو "تجّار الحرب" يتكفّلون بنقل البضائع بين المدن السوريّة، الّتي تسيطر عليها أطراف مختلفة.
وفي هذا المجال، قال أحد القائمين على معبر سيمالكا من جهة روج آفا لـ"المونيتور": إنّ المعبر يعتمد على دخول موادّ بسيطة كأولويّة غذائيّة، إضافة إلى الخضار ومشروبات الطاقة. كما يتمّ تصدير الأغنام إلى إقليم كردستان.
ومن جهته، أشار رئيس هيئة الإقتصاد ورئيس جامعة "عفرين" الدكتور أحمد يوسف في حديثه لـ"المونيتور" إلى أنّ المناطق الخاضعة لسلطة الأكراد (الجزيرة وكوباني وعفرين) تشكّل نحو 55 في المئة من ناتج الإنتاج المحليّ السوريّ. ولقد حاول الأكراد تشكيل نموذج اكتفاء ذاتيّ من خلال الالتفات إلى وضع استراتيجيّات إقتصاديّة لمناطقهم، وقال: "وضعنا خططاً تتماشى مع حال الحرب السوريّة بالإعتماد على موارد المنطقة، خصوصاً في الجانب الزراعيّ لتأمين الحاجات الأوليّة".
فيما يعود أكبر التحدّيات إلى أن الموادّ القادمة من الخارج "عادة تكون بسعر اللّيرة الأجنبيّة، وهي مرتفعة مقابل الليرة السوريّة، ممّا يشكّل نوعاً من الغلاء، إضافة إلى انعدام بعض الموادّ الأساسيّة مثل الأدوية والسكّر والأرز".
وفي بداية أكتوبر /تشرين الأوّل من عام 2015، عقد مؤتمر في عفرين بريف حلب، تلاه في الشهر نفسه مؤتمر في مدينة رميلان بشمال سوريا لوضع خطّة إقتصاديّة للمناطق الكرديّة. "تمّت فيهما مناقشة الواقع الزراعيّ والتجاريّ والكهرباء، ووضع برنامج متقدّم لتخفيف حدّة الحصار، وتطوير الآليّة الزراعيّة".
وأشار أحمد يوسف إلى أنّ "الخطّة ساهمت في انتقال نحو 50 في المئة من المصانع والمشاغل الصناعيّة من مدينة حلب المدمّرة إلى عفرين، وتقوم الإدارة بتأمين حاجات تلك المشاغل، وأيضاً تأمين مكاتب الشحن الّتي تبلغ 20 مكتباً في عفرين، وقال: "هناك خطّة لمنح أرض لإقامة منطقة صناعيّة للتجّار في عفرين".
وتعيش مناطق الأكراد بين الحين والآخر أزمات إقتصاديّة مختلفة، بحيث شهدت المنطقة قبل أسابيع أزمة فقدان مادّة البندورة وغلائها. وفي بداية العام الجاري، شهدت أزمة فقدان مادّة السكر. ونتيجة تلك الأزمات، ألغت إدارة الجمارك في مقاطعة الجزيرة بـ19 نيسان/إبريل من عام 2016 التعرفة الجمركيّة على كلّ الموادّ الغذائيّة الداخلة إلى المناطق الكرديّة.
وعن كيفيّة قدرة عفرين على الإكتفاء الذاتيّ وتجاوز الحصار الإقتصاديّ كنموذج لمناطق الأكراد، قال يوسف: إنّ التفكير بالموضوع يعود إلى عام 2012، حيث شكّلت مجموعة تجّار وصناعيّين أكراد في حلب "إتّحاد المنتجين في غرب كردستان سوريا"، رافق ذلك تشكّيلُ غرفة تجارة وصناعة في عفرين بنيسان/إبريل من عام 2014، ضمّت نحو 300 تاجر وصناعيّ. كما تمّ في عام 2014 تشكيل "مجلس ترشيد الاستثمار" من أجل تنظيم العمل في عفرين والإقرار بتنفيذ العديد من المشاريع.
وإنّ أحد النّجاحات الإقتصاديّة الذاتيّة في عفرين، بحسب يوسف، هو إنتاج 32 طنّاً من مادّة "صابون الغار" وتصديرها إلى خارج عفرين إلى مدن سوريا وقسم إلى تركيا. هذا عدا ظاهرة صناعة الألبسة، "حيث يتمّ إنتاج مليوني بنطال جينز في الشهر بعفرين يتمّ تصديرها إلى كلّ سوريا"، في حين أنّ أكثر الصعوبات والتحدّيات تكمن في انقطاع الكهرباء منذ ثلاثة أعوام عن غالبيّة المناطق الكرديّة، "وتعتمد بدلاً عنها محوّلات الكهرباء والأمبيرات،" بحسب يوسف.