إنّ العراق مقبل على أزمة إقتصاديّة كبرى لا تنفكّ تتفاقم، وتلك هي مؤشّراتها: انخفاض أسعار النّفط، الكلفة الباهضة لمقاتلة تنظيم "داعش"، والفساد الهائل المنتشر في مؤسّسات الحكومة. وهذا يستدعي من الحكومة العراقيّة التّفكير بحلول تناسب ظروف الأزمات الإقتصاديّة كي تستطيع مواجهة ما يستجدّ من صعوبات مقبلة. إنّ المشكلة الإقتصاديّة في العراق متأثّرة بسياقين :أحدهما مرتبط بالنّظام الإقتصاديّ وآليّاته السقيمة النّاتجة من عدم وجود بنية إقتصاديّة وسوق حرّة ناشطة ومرتبطة بالأسواق العالميّة. إنّ البنية التحتية الاقتصادية العراقية متضرّرة بشكل ملحوظ نتيجة الحروب والعقوبات الطويلة الأمد. وقد تحكّمت الحكومة بالنظام الاقتصادي لأكثر من نصف قرن. على الرغم من أنّ السوق الخاصة نمت بشكل ملحوظ منذ 2003، لا تزال ضعيفة. كما أنّ السوق الخاصة المحلية لا تساهم في السوق العالمية.
أمّا العامل الآخر، فهو مرتبط بالوضعين السياسيّ والإجتماعيّ العامّين في البلد، الّذي شهد سنوات طويلة من الديكتاتوريّة والحصار والفساد منذ الثورة العسكرية بين عامي 1959 و2003 وتحت حكم صدّام لاحقاً الذي دام لعشرين سنة. وإنّ أيّ نظام إقتصاديّ مهما كان قويّاً لن يستطيع أن يستمرّ بنجاح في ظلّ ظروف الأزمات السياسيّة، مثلما هي حال العراق. ومن هنا، تهتمّ المؤسّسات الإقتصاديّة المتخصّصة بالإقتصادات المتأزّمة بدراسة الحلول الممكنة لمعالجة تلك الإقتصادات الّتي تخيّم عليها أزمة تعمّ المجتمع بكامله. وفي هذا السياق، قامت المؤسّسة الإستشاريّة العالميّة لتطوير حياة الفقراء (CGAP) بدراسة الإقتصادات الخاصّة بالبلدان المتأزّمة، وقدّمت حلولاً إليها بواسطة سلسلة مدوّنات غطّت مناطق مختلفة من العالم العربيّ. وفي شأن العراق، اقترحت هذه المؤسّسة ضرورة تقديم دعم ماليّ صغير إلى الأعمال التجاريّة الصغيرة، مستندة بذلك على أنّ تقوية القطاع الخاص في مجال الأعمال الصغيرة تعدّ من الخطوات المهمّة في معالجة الأنظمة الإقتصاديّة السقيمة في البلدان الّتي تعاني من الصراعات وتتّصف بناها بالهشاشة، ممّا يصعب تقديم حلول شاملة وجامعة لها. وفي واقع الحال، إنّ التّنمية الإقتصاديّة في تلك البلدان تعاني من عقبات كبرى، كانتشار الفساد في مؤسّسات الحكومة، وعجز الحكومة عن إدارة مشاريع التّنمية العامّة والشاملة. ومن حيث المبدأ، لا يتحقّق النّجاح الإقتصاديّ من دون مؤسّسات قويّة وبنى تحتيّة، لكنّنا إزاء حال لا يمكن الإنتظار فيها لتثبيت الوضع وإنهاء الصراعات المكلفة كي تتمكّن الدولة من إنجاز مشاريع التّنمية الشاملة عبر ترميم البنى التحتيّة والمؤسّسات الماليّة والإقتصاديّة الكبرى. وفي حال كهذه، بإمكان الدولة مساعدة المشاريع التجاريّة الصغيرة عبر الدعم الماليّ وتقديم التّسهيلات الإداريّة إليها كي تتمكّن من النجاح. وبهذه الطريقة، تتمكّن الأسر العادية من الحصول على مورد ماليّ من خلال المساهمة الفاعلة في النّظام الإقتصاديّ، وقد يتمكّن بعض تلك المشاريع من التوسّع ليتحوّل إلى مشاريع كبرى في المستقبل.
ومن أجل ذلك، يتطلّب على الحكومة أن تقوم بخطوات عدّة:
الأولى: تسهيل المعاملات المصرفيّة وتقويتها، بحيث يتمكّن المواطنون من الحصول على قروض استثماريّة من المصارف المختلفة الناشطة في العراق. والجدير ذكره أنّ المصارف في العراق ليست ناشطة على مستوى واسع. ففي إحصائيّة للبنك الدوليّ في عام 2014، ظهر أنّ 11 في المئة من المواطنين العراقيّين فقط يمتلكون حسابات مصرفيّة في البنوك العراقيّة، وأنّ 4 في المئة من العراقيّين فقط حصلوا على قروض رسميّة من المصارف، ويعود السبب في ذلك إلى تخلّف النّظام المصرفيّ في العراق وتحكّم البيرقراطيّة فيه. كما أنّ معظم المصارف لا تقدّم خدمات إلكترونيّة، وعمليّة فتح الحساب تتطلّب خطوات كثيرة وتستغرق زمناً طويلاً جدّاً، فضلاً عن أنّ معظم المصارف لا تمتلك خدمة بطاقات الإئتمان وأجهزة الصرّاف الآليّ (ATM) الّتي تسهّل الوصول إلى الخدمات المصرفيّة في مختلف مناطق البلد.
الثانية: إيجاد وسائل نقل وإتّصالات عامّة تتّصف بالكفاءة لنقل البضائع المنتجة وترويجها من قبل الشركات الصغيرة، الّتي لا تتمكّن من إدارة أمور النّقل الخاص. وفي هذا المجال، يقدّم العراق أمثلة سيّئة، فالنّظام البريديّ فيه ما زال غير فاعل، والشركات الأهليّة المتخصّصة بأمر البريد مثل "دي. أج. أل" تتعامل غالباً مع خارج البلد، وتكلفة إرسال الحمولات فيها غالية جدّاً. ولقد قام "المونيتور" بتوجيه أسئلة إلى عدد من الناشطين في مجال الأعمال التجاريّة الصغيرة للتعرّف على نوعيّة التحدّيات الّتي يواجهونها، فظهر أنّ معظمهم ركّز على مشكلة الإتّصالات والتّواصل بينهم وبين زبائنهم. ومن النّماذج الّتي تابعها "المونيتور"، قيام الشاب باقر أحمد رشيد من بغداد بإنشاء سوق إلكترونيّة لبيع الكتب والمجلاّت والمنشورات الأخرى، وكان يحلم بتوسيعها لتصبح على نمط موقع "أمازون" على المستوى المحليّ، لكنّ المشروع فشل بعد سنتين من الجهد وصرف الأموال بسبب صعوبة توصيل الكتب والبضائع إلى الزبائن في مختلف مناطق البلد.
الثالثة: إيجاد فضاء لدعم الستارتاب (startup) من خلال فتح أماكن محدّدة لاستقبال أصحاب الأفكار ودعمهم لإيجاد مشاريع إقتصاديّة صغيرة وربطهم بالمستثمرين الراغبين في المشاركة معهم. توجد في المجتمعات المتطوّرة نماذج عدّة لمثل تلك الفضاءات، الّتي انطلقت منها معظم الشركات الإقتصاديّة الصغيرة الناجحة في الغالب.
الرابعة: تقوية قطاع التأمين في البلد لتتمكّن المشاريع الصغيرة من حماية نفسها أمام التّهديدات المتنوّعة الّتي تواجهها، كذلك وجود شركات تأمين فاعلة تغري المستثمرين بالاستثمار في قطاع الأعمال الصغيرة من دون أن يشعروا بقلق كبير على رؤوس أموالهم.
وفي ما عدا ذلك، من الضروريّ تفعيل دور الإعلام في ترغيب المواطنين بالإتّجاه نحو هذا القطاع، وعدم التّركيز على التّوظيف الحكوميّ، الّذي يعاني العراق من فائض كبير فيه. ففي خطاب متلفز لرئيس الوزراء العراقيّ حيدر العبادي في 10 أيلول/سبتمبر من عام 2015 أعلن أنّ العراق يمتلك أكثر من 4 ملايين موظّف حكوميّ، أيّ ما يشكّل 20 في المئة من قوّته العاملة. وتقول إحصائيّات أخرى، إنّ عدد الموظفين في العراق بلغ 6 ملايين، ونسبة العمل اليوميّ المفيد لكلّ موظف لا تبلغ أكثر من 10 دقائق. يرتفع معدّل البطالة باستمرار منذ 2013 حين كان 15،1% وقد وصل إلى 16،4% عام 2014 ليستقرّ عند 17،6251% في عام 2015.
وعلى الخطى نفسها، يعدّ دعم الأعمال التجاريّة الصغيرة مهمّاً جدّاً في المناطق المحرّرة من تنظيم "داعش"، فهذه المناطق تحتاج إلى مشاريع تنمية عاجلة كي يستقرّ فيها الوضع المعيشيّ للسكّان في الحدّ الأدنى، بما يمكّن النازحين من الرجوع إلى مناطقهم ويحصّن تلك المناطق أمام مساعي التّنظيم لتجنيد مجموعات وإيجاد خلايا نائمة ليعاود محاولاته في إعادة السيطرة عليها لاحقاً.