ليس من المفاجئ أن يستقل الرئيس عبدالفتاح السيسي، يخت المحروسة، الملكي سابقًا، خلال الحفل العالمي لقناة السويس الجديدة، نظرًا لرؤية الرئيس في ظهور الحفل في أبهى صورة، حتى في أدق تفاصيله، فضلًا عن رغبته في تصدر الحفل أخبار الوكالات والفضائيات العالمية، بل والأكثر، رغبته في تناول لقطات خاصة من الحفل تبرز عظمة مصر.
حيث أن المحروسة يعد من أفخم وأرقى اليخوت على مستوى العالم، ومن أكبرهم حجمًا وطولًا، لدرجة أنه يوصف بالقصر المتحرك، فضلًا عن أرستقراطيته في التصميم الداخلي والخارجي، واحتواءه من الداخل على ما يؤرشف الحضارة المصرية باختلاف الحقب الزمنية، وأراد السيسي أن يتوج إنجازه خلال فترة حكمه بحضور شاهد عيان وأحد المشاركين في أهم أحداث مصر التاريخية في العصر الحديث.
في 31 يوليو الماضي، رحل يخت المحروسة، من ميناء الإسكندريّة، ليعبر المجرى الملاحي ببورسعيد، ويستقر في قناة السويس الجديدة، استعدادًا لحضور الحفل الرسمي لافتتاحها في 6 أغسطس، والذي حمل الرئيس عبدالفتاح السيسي، أثناءه، وكان أول عائمة بحرية تشق القناة الجديدة.
ويعدّ يخت المحروسة، القطعة البحريّة الوحيدة الّتي شهدت افتتاح قناتي السويس القديمة والجديدة، فقد استقلّه الخديويّ إسماعيل، كقطعة بحريّة أولى تشقّ قناة السويس في مراسم افتتاحها بـ16 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1869. ورغم أنّه لم يكن الأوّل في عبور القناة الجديدة، لكنّه الأوّل رسميّاً، في 6 آب/أغسطس من عام 2015. وقد عبر قناة السويس القديمة الّتي دخلها منذ 146 عاماً مرّة ثانية في افتتاحها الثاني في 5 حزيران/يونيو من عام 1975.
يعود إنشاء "المحروسة" إلى إصدار الخديويّ إسماعيل فرماناً ببناء اليخت الملكيّ المصريّ الأوّل في عام 1863، ليستقلّه في رحلته إلى أوروبا عام 1869، ويدعو ملوكها وقادتها إلى حضور افتتاح القناة، واستقلاله مجدّداً بصحبة ضيوفه كالعائمة الأولى الّتي تعبر القناة العالميّة، الأمر الّذي أسنده إلى شركة "سامودا" البريطانيّة، وقامت بتصنيعه على نهر التايمز، واستلمته البحريّة المصريّة في عام 1865، لتعود به إلى ميناء الإسكندريّة.
بني اليخت بطول 125م وبعرض 14م وبحمولة 3417 طنّاً. أمّا محرّكه فبخاريّ يعمل بوقود الفحم الحجريّ. كما أنّه يتمتّع بنظام الطارات الجانبيّة وبسرعة 16 عقدة في السّاعة، وهو مزيّن بمدخنتين، فضلاً عن ثمانية مدافع من طراز "أرمسترونج".
ويتألّف اليخت من الطابق السفليّ، وهو يضمّ الماكينات والغلاّيات وخزّانات الوقود. أمّا الطابق الرئيسيّ فيضمّ غرف الجلوس، المطابخ، المخازن، الجناح الشتويّ، والقاعة الفرعونيّة، إضافة إلى جناح الأمراء والأميرات. ومن جهته، يضمّ الطابق العلويّ الأوّل مقدّمة اليخت، المخطاف، الأوناش، صالتي الطعام والتّدخين، ويضمّ الطابق العلوي الثاني سطح المدفعيّة، الحديقة الشتويّة والصيفيّة، الجناح الصيفيّ والصالة الزرقاء، وهو يحتوي على أربعة مصاعد، منها المصعد الخاص بالجناح الخصوصيّ ومرآب للسيّارة الملكيّة.
لقد طوِّر اليخت مرّات عدّة، الأولى في عام 1872، حيث أرسله إسماعيل إلى لندن ليزداد طوله إلى 137.5 متراً. وفي عام 1905، أرسله الخديويّ عبّاس حلمي الثاني إلى ميناء جلاسكو، واستبدلت طارات الدفع الجانبيّة بآلات الدفع البخاريّة. وفي عام 1912، تمّ تزويده بالتليغراف، الّتي كانت أحدث وسيلة اتّصال آنذاك. أمّا في عام 1919 فأرسله السلطان فؤاد الأوّل لتعديل شكل مؤخّرته، وزيادة طوله إلى 146 متراً.
لقد شهد اليخت ثورة حقيقيّة في عام 1949، إذ أرسله الملك فاروق إلى ميناء لاسبيزيا، وقامت شركة "أنسالدو" الإيطاليّة، بزيادة قوّة دفعه وحمولته الكليّة، وإضافة الطابق العلويّ الثالث، الّذي احتوى على الممشى والعائمات. وانتهى تعديله، للمرّة الأخيرة، في كانون الثاني/يناير من عام 1952، وغير الرّئيس جمال عبد النّاصر اسمه من "محروسة" إلى "الحريّة" في عام 1956، وعاد إلى اسمه في عام 2000، مع إضافة "الـ" ليصبح "المحروسة".
خرج "المحروسة" في رحلته الأولى بعد وصوله إلى الإسكندريّة، في عام 1867، لإخماد ثورة كريت في اليونان، حاملاً على متنه الحملة العسكريّة وقائداً أسطولاً من عشر سفن، بعد ما تمّ ضمّه إلى الأسطول المصريّ. كما خرج إسماعيل على متنه في عام 1868 لحضور المعارض المقامة في باريس. وفي العام التّالي إلى ميناء مارسيليا ودعوة ملوك أوروبا لافتتاح قناة السويس. وكانت الرّحلات الأخيرة للخديويّ على متنه بعد ذلك بعشر سنوات إلى ميناء نابولي، عقب عزله عن حكم مصر، وعاد يخت "المحروسة" إلى الإسكندريّة.
لقد أبحر "المحروسة" في عام 1899، إلى ميناء بورسعيد، لإزاحة الستار عن تمثال ديليسبس، وظلّ حبيساً حتّى خرج إلى منفى الخديويّ عبّاس حلمي الثاني في عام 1914 لميناء الآسيتانة، وظلّ حبيس الميناء حتّى نهاية الحرب العالميّة الأولى، خوفاً من تعرّضه للحرب. وفي عام 1939، أرسل "المحروسة" إلى إيران ليأتي على متنه شاه إيران محمّد رضا بهلوي، الّذي عقد قرانه على الأميرة فوزيّة، وهي شقيقة الملك فاروق الأوّل ملك مصر والسودان.
وجاءت الرحلات الأخيرة لـ"المحروسة" بأوامر ملكيّة في عام 1946 إلى ميناء جدّة، ليبحر على متنه العاهل السعوديّ جلالة الملك عبد العزيز آل سعود إلى ميناء بورفؤاد في زيارته الرسميّة لمصر، ويعيده عقب ذلك بـ19 يوماً، في 25 يناير/كانون الثاني إلى جدّة ثانية. وتلتها الإصلاحات الأخيرة في عام 1949، ليعود قبيل ثورة عام 1952، الّتي أطاحت بالملك فاروق عن عرش مصر، ليطأ يخت "المحروسة" للمرّة الأخيرة في رحلته إلى منفاه الاختياريّ، ميناء كابري في إيطاليا.
وفي هذا السّياق، أكّد الباحث في التاريخ والحضارة المصريّة الحديثة الدّكتور ناصر الكيلاوي أنّ "اليخت يعدّ كنزاً وطنيّاً، كونه أقدم قطعة بحريّة في العالم، لا تزال محتفظة برونقها، وقادرة على الإبحار، فضلاً عن شراكته الأساسيّة في تاريخ مصر، ومصاحباً لملوكها ورؤسائها في رحلاتهم المهمّة حول العالم لقرابة 150 عاماً".
وقال: "إنّ الرّئيس جمال عبد النّاصر استقلّه في رحلات مهمّة مثل المشاركة في مؤتمر دول عدم الانحياز بإندونيسيا ورحلته إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، فضلاً عن رحلته إلى الجزائر عقب استقلالها. كما استقلّه الرّئيس أنور السادات في رحلته إلى حيفا لعقد إتّفاق السلام مع إسرائيل. وكذلك، في عام 1976، أبحر اليخت مسافة 12700 ميل بحريّ إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، للاحتفال بالعيد رقم 200 لاستقلالها".
أضاف: "يحتوي المحروسة على كنوز أثريّة، من بينها بيانو نادر صنع في ألمانيا خصوصاً للإمبراطورة أوجيني زوجة نابوليون بونابرت، وأهدته إلى الخديويّ إسماعيل خلال افتتاح قناة السويس، وهو يعدّ قطعة فنيّة تاريخيّة لا تزال في حال جيّدة. كما يحتوي اليخت على لوحات فنيّة نادرة تزيّن جدران قاعاته، وهي ترصد تاريخ مصر منذ العصر الفرعونيّ حتّى الملكيّ".
لقد استخدمت "المحروسة" البحريّة المصريّة في عمليّاتها وتدريباتها الحربيّة منذ عام 1955 وحتّى 1973، وظلّ حبيس مرسى قصر رأس التين في الإسكندريّة منذ عام 2000 إلى حين ظهوره في مسلسل "الملك فاروق"، وهو ما فتح فضول الجمهور لطلب زيارته، فسمحت القوّات البحريّة المصريّة بذلك، بعد أخذ التّصريحات اللاّزمة، ويستطيع الزوار التجوّل فيه والاستماع إلى شرح كامل عن تاريخه.
لم يكُن استخدام "المحروسة" لدى الرأي العام المصري أقل أهمية مما يحمله عن السيسي، حيث تصدرت أخباره الصحف والفضائيات المصرية، وأيضًا وجد اهتمامًا خاصًا من المؤسسات الحكومية المصرية، الرسمية وغير الرسمية، بحسب التقرير الذي نشرته وكالة الأخبار المصرية الرسمية "أ ش أ"، في 7 أغسطس 2015، وتزامناً مع افتتاح قناة السويس، أنتجت إدارة الشؤون المعنويّة التّابعة للقوّات المسلّحة فيلماً وثائقيّاً قصيراً عن يخت "المحروسة" بعنوان "محروسة عبر الزمن". وكذلك، طبعت مكتبة الإسكندريّة كتاباً حوله بلغات عدّة بعنوان "اليخت محروسة... رحلة مع اليخت الملكيّ"، وهو يتضمّن أرشيفاً كاملاً مصوّراً عن اليخت على مرّ السنوات وتطوّراته والأحداث الّتي شهدها.