لم يمض الكثير من الوقت على نشر الباحث الأميركيّ المتخصّص في العالم الإسلاميّ غراهام فولر كتابه الشهير تحت عنوان "العرب الشيعة: المسلمون المنسيّون" في عام ١٩٩٩. وقد ركّز فولر دراسته الموسّعة على المجتمعات الشيعيّة المنتشرة في العالم العربيّ من العراق والخليج إلى لبنان واليمن. أمّا اليوم، فلم يبق الشيعة العرب منسيّين كما كانوا طوال تاريخهم البعيد في المنطقة، وذلك بفضل صعود الهويّة السياسيّة الشيعيّة في العراق، والتي مهّدت الجسر الارتباطيّ الواسع بين شيعة إيران والشيعة العرب في المناطق الأخرى من العالم العربيّ، مثل الكويت والبحرين ولبنان.
بسبب الموقع الجيوسياسيّ للعراق، تربط علاقات تاريخيّة وطويلة الأمد شيعة العراق بالشيعة الإيرانيّين من جهّة والشيعة العرب في البلاد العربيّة الأخرى. فالعراق يحتوي على أهمّ مؤسّسة دينيّة شيعيّة وأقدمها في مدينة النجف، والتي يجتمع فيها رجال الدين الشيعة من مختلف أنحاء العالم من شبه القارّة الهنديّة، وصولاً إلى إيران، ومختلف مناطق العالم العربيّ. كما أنّ لشيعة العراق علاقات مصاهرة واسعة مع الشيعة الإيرانيّين وشيعة العالم العربيّ، وخصوصاً دول الخليج، بسبب علاقات الجوار التاريخيّة في ما بينهم واشتراكهم أيضاً في الانتماء إلى العشائر والقبائل العربيّة الكبرى.
وبطبيعة الحال، تشكّل هذه القوّة الإنسانيّة الهائلة تحدّياً كبيراً للأنظمة السنيّة الحاكمة في العالم العربيّ، وخصوصاً المجاورة للعراق وإيران. وقد تجاوز التحدّي مجرّد الاختلاف الدينيّ، حيث أدّى صعود الموجة الطائفيّة ضمن مشاريع سياسيّة متنافسية لكلّ من إيران والسعوديّة، إلى تصادم بين تلك الأنظمة ومكوّناتها الشيعيّة.
وقد كشفت الوثائق السعوديّة المتسرّبة في 19 حزيران/يونيو من قبل موقع ويكيليكس، مدى قلق الأنظمة العربيّة والخليجيّة منها في شكل خاصّ، والسعوديّة في شكل أخصّ، من صعود الهويّة الشيعيّة في المنطقة، وتواصل شيعة بلادهم مع شيعة العراق وإيران. فمن باب المثال، قال ولي العهد الإماراتيّ محمد بن زايد لوزير الطاقة الأميركيّ في 17 كانون الأوّل/ديسمبر ٢٠٠٩ إنّ إيران تؤسّس إمارات شيعيّة في مختلف مناطق العالم الإسلاميّ كجنوب لبنان وغزّة، ومختلف بلاد الخليج واليمن. وفي وثيقة أخرى في 9 نيسان/أبريل ٢٠٠٩، كشف وزير الخارجيّة الإماراتيّ الشيخ عبدالله بن زايد أنّ السعوديّة غير مرتاحة من صعود آصف علي زرداري إلى رئاسة جمهوريّة باكستان لاعتباره شيعيّاً، وأنّه سيساعد في إيجاد مثلّث شيعيّ مع إيران والعراق.
وتظهر الوثائق في شكل عامّ أنّ القوّة السياسيّة الشيعيّة، وعلى رأسها إيران تشكّل الهاجس الرئيسيّ الأوّل للسعوديّة وأغلبيّة دول الخليج الأخرى، وذلك أنّ هناك تركيزاً على الارتباط بين المجتمعات الشيعيّة في الخليج ونظيراتها في إيران والعراق.
وقد تصاعد القلق في الآونة الأخيرة في شكل فائق جدّاً، خصوصاً بعد الأزمة اليمنيّة، حيث شعر الجانب الخليجيّ بأنّ خطر التحالفات الشيعيّة أصبح خلف بابه. واتّجه الإعلام الخليجيّ نحو صناعة بروباغاندا إعلاميّة واسعة ضدّ التحالفات الشيعيّة، هادفاً إلى تقييد العلاقات بين شيعة الخليج وشيعة العراق وإيران. ويبدو أنّ الهدف من ذلك هو الحفاظ على آخر الحصون المنيعة ضدّ الإمتداد الشيعيّ، حسب رؤيته.
ومن النماذج على ذلك، تقرير نشره موقع الخليج أونلاين في 11 حزيران/يونيو يقول إنّ الزيارات الدينيّة من قبل شيعة الخليج إلى العراق تؤدّي بهم إلى التجنيد العسكريّ ضمن الميليشيّات الشيعيّة الفاعلة في مختلف قطاعات المنطقة. ويدّعي الموقع أنّ هناك حملة ممنهجة من قبل جماعات شيعيّة في النجف لترغيب شيعة الخليج في السفر إلى العراق، ومن ثمّ دعوتهم إلى المشاركة في جلسات إيمانيّة تنتهي بدمجهم في ميليشيّات عسكريّة مدارة من قبل إيران. والهدف منها انتشارها في مختلف البلاد العربيّة لنشر الزعزعة وتسيير سياسات إيران الإقليميّة. ويؤكّد التقرير سيطرة الإيرانيّين على مختلف قطاعات المدينة في النجف، واستغلال المراقد الدينيّة والمؤسّسات الشيعيّة للأغراض السياسيّة المرتبطة بإيران. هذا في حين لم يحصل "المونيتور" خلال تواجده في مدينة النجف، على ما يثبت هذه الادّعاءات. وقد أدّى نشر مثل هذه التقارير إلى وضع المزيد من القيود على الشيعة في بعض دول الخليج لمنعهم من زيارة العراق أو التقليل من هذه الزيارات. تقول زينب، وهي جامعيّة بحرينيّة إنّ غالباً ما يواجه الزوّار الشيعة استجوابات وملاحقات بعد عودتهم من العراق.
ما هو بارز في القلق الخليجيّ المتصاعد هو الارتباك وعدم القدرة على التعامل الصحيح مع الجاليات الشيعيّة في بلادهم. وينتج ذلك من سياسة عدم الانفتاح تجاه شيعة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣. فقد أدّى ذلك من جهّة إلى تبرير التمدّد الإيرانيّ في المنطقة بوصفه العون والسند الوحيدين للشيعة، وإلى فقدان الثقة بين الجاليات الشيعيّة والأنظمة الخليجيّة من جهّة أخرى.
ويؤدّي التشدّد الخليجيّ ضدّ الأحزاب والجماعات الشيعيّة المعتدلة في الخليج إلى تأزيم أكبر لصالح الأجندة الإيرانيّة والجماعات المرتبطة بها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الحكم في 10 حزيران/يونيو على الأمين العام لحزب الوفاق البحرينيّ والمعروف بخطابه الوطنيّ والمعتدل بالسجن لمدّة أربع سنوات، لاتّهامات سياسيّة ملفّقة حسب رأي منظّمة هيومن رايتس واتش، التي طالبت بإطلاق سراحه فوراً. وقد دعا السلمان من سجنه مؤيّديه إلى أن يلتزموا بسلميّة وسائل الاحتجاج، وأكّد أنّ ليس لحزبه مطالب أكثر من الالتزام بنظام المملكة الدستوريّة.
ووفقاً لما يظهره سير الحوادث في السنوات الأخيرة، فإنّ الاستمرار في سياسات إقصاء الشيعة نفسها التي انتهجتها الأنظمة السنيّة طوال السنوات الماضية، أصبح غير مجدٍ، بل يدعو إلى المزيد من التأزيم لصالح الجانب الإيرانيّ. وهذا ما يدعو تلك الأنظمة إلى التفكير بجديّة أكثر والتخطيط الشامل والمعمّق لدمج الجالية الشيعيّة في مجتمعاتها، وإعطائها الشعور بالحقوق المتساوية والكرامة والانتماء إلى بلادها.