بغداد - المفارقة في الحياة الحزبيّة في العراق، والتي تدار منذ أكثر من عشر سنوات وفق أمر أصدره الحاكم المدنيّ الأميركيّ للعراق بول بريمر برقم 97 لعام 2004 لتنظيم عمل الاحزاب والتهيئة للانتخابات التي شكلت الجمعية الوطنية الانتقالية عام 2005، أنّ الأحزاب العراقيّة التي استثمرت تلك التعليمات لاكتساب شرعيّة موقّتة إلى حين إقرار الدستور العراقيّ ومن ثمّ قانون الأحزاب، وجدت أنّ البيئة السياسيّة التي لا ترتّب عليها التزامات أو مسؤوليّات واضحة لكشف تمويلها، وإجراء انتخاباتها الداخليّة هي الأمثل لممارسة العمل السياسيّ، فعلّقت القانون على شمّاعة الخلافات لسنوات.
وينصّ الدستور العراقيّ في المادة 39 منه على "حريّة تأسيس الجمعيّات والأحزاب السياسيّة، أو الانضمام إليها"، على أن "ينظّم ذلك بقانون". وهذا القانون لم ير النور بعد نحو عشر سنوات على إقرار الدستور العراقيّ، وبعد نفاذ الصفة القانونيّة لأوامر بريمر الانتقاليّة.
وعلى الرغم من إعلان القوى السياسيّة والبرلمانيّة في العراق طوال السنوات الماضية نيّتها إقرار قانون ينظّم الأحزاب السياسيّة في البلاد، ويضع آليّات واضحة لتأسيسها وجهة معيّنة لمراقبة التزاماتها، فإنّها تقف كلّ مرّة أمام نقطة تنسف القانون برمّته وتدفعه إلى التأجيل عاماً بعد آخر.
وسبق للحكومات العراقيّة أن قدّمت مسوّدات مختلفة لقانون الأحزاب منذ عام 2006 حتّى اليوم، وكانت الاعتراضات حول القانون تتعلّق في الدرجة الأساس، بالجهّة التي يجب أن تكون مشرفة على تنفيذ القانون سواء للتسجيل أم لمراقبة التمويل، مع الأخذ في الاعتبار أنّ هناك مهمّة إضافيّة تترتّب على تلك الجهّة تتعلّق بنصّ المادّة 7 من الدستور التي تحظّر أيّ "كيان أو نهج يتبنّى العنصريّة أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفيّ، أو يحرّض أو يمهّد أو يمجّد أو يروّج أو يبرّر له، وخصوصاً البعث الصدّاميّ في العراق ورموزه، وتحت أيّ مسمّى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعدّدية السياسيّة في العراق، وينظّم ذلك بقانون".
وكانت الحكومة التي ترأّسها نوري المالكي لدورتين انتخابيّتين (2006 - 2014) قدّمت نسخاً عن قانون الأحزاب تربط الأحزاب بوزارة الداخليّة في الحكومة، لتكون هي الجهّة المسؤولة عن التنفيذ.
ولاقى هذا الخيار على امتداد السنوات الماضية اعتراضات من الكتل التي عارضت حكومة المالكي، فيما اعتبر مقرّبون من رئيس الحكومة أنّ تلك القوى تعارض تشريع القانون رغبة بالمكاسب السياسيّة، ولضمان الإبقاء على تمويلها الخارجيّ.
وخلال تلك المساجلات الطويلة، ظهرت دعوات في البرلمان إلى ربط الأحزاب بمجلس القضاء الأعلى مرّة، أو بوزارة العدل مرّة أخرى.
ووفقاً لمستشار رئيس الجمهوريّة الحاليّ، ورئيس أوّل مفوضيّة الانتخابات في العراق بعد عام 2003 الدكتور حسين الهنداوي، فإنّ الجدل الذي دام عشر سنوات حول هذه القضيّة كان يمكن حسمه عبر اقتراح قدّمه عدد من المتخصّصين في عام 2005 بربط الأحزاب بمفوضيّة الانتخابات أو بهيئة مستقلّة.
وقال الهنداوي لـ"المونيتور" إنّ السنوات الماضية كانت دليلاً على التخبّط السياسيّ في البلد، حيث قدّمت العديد من المسوّدات من الحكومة إلى البرلمان، وسحبت ثمّ قدّمت مسوّدات أخرى لتلاقي المصير نفسه، وكان جوهر المشكلة يتعلّق بالجهّة المسؤولة عن تنفيذ القانون، وما إذا كان يجب أن ترتبط بالحكومة أو بإحدى وزاراتها، أم يجب أن ترتبط بمفوضيّة الانتخابات، أو أن تكون جهّة خاصّة، أو هيئة تشكّل لهذا الغرض".
ويكشف الهنداوي عن أنّ آخر مسوّدة لقانون الأحزاب قدّمها رئيس الجمهوريّة حسب صلاحيّاته في 22 نيسان/أبريل 2015 كانت تتضمّن إنشاء هيئة مستقلّة للأحزاب".
وهذا الأمر أيّدته عضو اللجنة القانونيّة في البرلمان العراقيّ عالية نصيف التي قالت لـ"المونيتور" إنّ "مشروع قانون الأحزاب المقدّم من قبل رئاسة الجمهوريّة حلّ أغلب النقاط الخلافيّة التي تضمّنتها النسخة التي قدّمتها الحكومة للمشروع ذاته". وأضافت أنّ اللجنة اعتمدت نسخة رئاسة الجمهوريّة في النهاية.
وقالت: "وجدنا أنّ المشروع المقدّم تضمّن مقترحات أو فقرات استوعبت غالبيّة النقاط الخلافيّة وأهمّها أنّه اشترط تشكيل هيئة عليا للأحزاب، وهذه الفقرة هي أهمّ ما يتطلّبه المشروع، في حين أنّ مسوّدة الحكومة لم تتطرّق إلى ذلك، كما أنّ المسوّدة تناولت بالتفصيل آليّات تشكيل الأحزاب وتمويلها، وغيرها من النقاط التي كانت تشكّل مصدر قلق إلى بعض الأطراف".
انتهى الموضوع إذاً بالعودة إلى الاقتراح الذي قدّم قبل عشر سنوات بتشكيل هيئة مستقلّة للأحزاب حسب المادّة 108 من الدستور العراقيّ التي تجيز تشكيل هيئات مستقلّة "حسب الحاجة والضرورة بقانون".
وهنا، لا بدّ من التساؤل عن الأهداف الحقيقيّة التي وقفت خلف تأخير إقرار قانون للأحزاب طوال عشر سنوات، وإذا كانت هذه الأهداف موجودة اليوم، وستسمح بتمرير القانون؟
واقع الحال أنّ النظر إلى الواقع الحزبيّ في العراق يكشف عن حقائق مقلقة تتعلّق بالأحزاب العراقيّة منها غياب أيّ رقابة حول طبيعة تمويل الأحزاب، والتي بات بعضها يملك أموالاً طائلة وبنايات منتشرة في كلّ أنحاء العراق، وأجهزة إعلام وقنوات فضائيّة، ويدفع مرتّبات لآلاف من أعضاء الحزب، ويدير مشاريع اقتصاديّة ضخمة عبر شركات مرتبطة به.
وايضاً غياب أيّ رقابة على ضوابط الأنظمة الداخليّة للأحزاب ومؤتمراتها الدوريّة، والانتخابات التي يجب أن تجري داخل كلّ حزب لاختيار هيئاته وقياداته. فلا انتخابات حقيقيّة وجادّة (ماعدا بعض المحاولات) جرت في معظم الأحزاب العراقيّة، وليس ثمّة وضوح في الطريقة التي يحتفظ بها زعماء الأحزاب بمواقعهم لمدّة عقد أو أكثر.
ويمكن تأشير ضعف الثقافة الحزبيّة داخل الأحزاب، فالتكوين الحزبيّ لمعظم الأحزاب العراقيّة لا يعتمد قواعد وأفكار وآليّات عمل بقدر الاعتماد على المال السياسيّ أو الولاء الطائفيّ أو القوميّ. وكذلك انعدام الرقابة على الخطاب السياسيّ لأيّ حزب عراقيّ حسب نصّ المادّة 7 من الدستور، فعلى الرغم من أنّ الكثير من الأحزاب تنقض هذه المادة التي تحرّم النزعات الطائفيّة أو العنصريّة وتجرّمها، فإنّ العراق يفتقر إلى أيّ آليّة لمنع تلك الأحزاب من ممارسة هذا التحريض.
إن هشاشة البنية الحزبيّة في العراق، كانت من بين أبرز الضربات التي توجّه اليوم إلى وحدة العراق، وتهدّد بتقسيمه، وتنشر العنف والتخندق الطائفيّ والعرقيّ على أرضه، كما أنّ الافتقار إلى بيئة حزبيّة سليمة وغير خاضعة إلى الخارج، وغير مموّلة منه، قادت على الدوام إلى إنتاج تجربة حكوميّة وبرلمانيّة متصدّعة، تتيح الإبقاء على بيئة الفوضى، ولا تتّخذ خطوات جادّة لتكريس النظام.
بالعودة إلى التساؤل السابق: هل تغيّرت هذه البيئة اليوم لتسمح للأحزاب العراقيّة المتّهمة بتسميم الحياة السياسيّة بقانون يراقب آداءها ويضعها في إطارها الوطنيّ؟ الجواب: إنّ الأمر ما زال مشكوك فيه، حتّى يثبت العكس عبر إقرار القانون فعلاً وتنفيذه.