منذ قرون، يهيمن الرجل في الدول العربيّة على مناصب الدولة المهمّة كالقضاء الشرعيّ الذي يختص على سبيل الحصر في النظر والفصل في نزاعات الأحوال الشخصية، ويعتمد على التشريعات الاسلامية في النطق بالاحكام، حتّى قرّرت المحامية الفلسطينيّة خلود الفقيه أن تكسر هذا العرف، وتفتح هذا الباب المغلق لتصبح المرأة الأولى التي تتبوّأ منصب قاضٍ شرعيّ، في رحلة طموح بدأت ولا تزال مستمرّة.
الرحلة إلى كرسيّ القضاء
في 15 شباط/فبراير في عام 2009، كانت فلسطين على موعد مع مفاجأة كبيرة، حين أصدر الرئيس محمود عبّاس مرسوماً رئاسيّاً بتعيين خلود الفقيه في سلك القضاء الشرعيّ، في سابقة هي الأولى من نوعها في فلسطين والمحيط العربيّ، بعدما كان هذا المنصب حكراً على الرجال.
وتروي الفقيه لـ"المونيتور" رحلتها في سلك القضاء، التي بدأت بحصولها على البكالوريوس في القانون بدرجة امتياز من جامعة القدس عام 1999 ثم درجة الماجستير من نفس الجامعة في العام 2007 ، وحصلت في العام 2001 على اجازة المحاماة الشرعية من ديوان قاضي القضاة واجازة المحاماة النظامية من نقابة محامي فلسطين، لتلتحق بالعمل كمستشارة في عدد من المؤسّسات النسائيّة، ومحامية للدفاع عن النساء في المحاكم الشرعيّة والقانونيّة.
وعن توجّهها لتصبح قاضية شرعيّة، قالت الفقيه إنّها لاحظت خلال عملها غياب وجود المرأة في القضاء الشرعيّ، ممّا دفعها إلى البحث عن سبب ذلك، وإعداد بحث قانونيّ وشرعيّ حول الموانع التي تحول دون ذلك، وفق قانون الاحوال الشخصية الاردني للعام 1976 المطبّق في فلسطين، حيث لم تجد نصّاً شرعيّاً أو قانونيّاً يمنع ذلك، ممّا شجّعها على المضي في الأمر.
وأضافت الفقيه أنّ اقتصار هذا المنصب على الرجال، يعود إلى عرف اجتماعيّ ينبع من تفضيل الذكر على الأنثى في المجتمعات العربيّة، لكنّ هذا الأمر لم يمنعها من تقديم البحث الذي أجرته إلى قاضي القضاة في ذلك الوقت تيسير التميمي، قائلة: "حين قلت له إنّني أريد أن أصبح قاضية شرعيّة، بدا وكأنّ صاعقة أصابته في البداية، وبعد ذلك، بيّنت له أنّه لا يوجد مانع شرعيّ وقانونيّ يحرمني من ذلك، وفق المذاهب الأربعة والقانون الأردنيّ المطبّق في فلسطين".
في عام 2008، تقدّمت الفقيه إلى مسابقة قضائيّة، أعلن عنها مجلس القضاء الشرعيّ لتعيين القضاة، إذ كانت بمثابة فرصة ثمينة لها. وتقول: "كنت الفتاة الوحيدة التي تقدّمت إلى الامتحان إلى جانب 45 ذكراً، وقد اجتزته بدرجة عالية، بعد نجاحي في الامتحان الذي اهلني لاكون قاضية شرعية، وبعد خوي هذه التجربة اقنعت زميلتي اسماء الدحيدي بالتقدم لامتحان اخر بسبب حاجة المحاكم الى قضاة، ليصدر في العام 2009 مرسوما رئاسيا من الرئيس عباس بتعييننا، وهو ما اسعدني وزاد من قناعتي بقدرة المرأة على النجاح".
تحدّيات اجتماعيّة
ولم تخل رحلة الفقيه من التحدّيات، لا سيّما أنّها امرأة تسعى إلى الجلوس على مقعد لم يمرّ عليه سوى الرجال. وتقول:
وأشارت الفقيه إلى أنّ الرفض وصل إلى بعض الفقهاء الشيوخ، وظهر في خطب يوم الجمعة، ومقالات صحافيّة تفيد أنّه لا يجوز للمرأة أن تشغل منصب قاضية شرعيّة، معتمدين على آراء تلبّي رغباتهم.
وحسب الفقيه، فإنّ الأسباب الدافعة إلى ذلك، تنبع من عدم تقبّل القضاة وجود امرأة تنافسهم على منصب كان حكراً عليهم طيلة عقود، لما يوفّر لهم من ميزة اجتماعيّة واقتصاديّة، لكنّ موقف المواطنين ينبع من الموروث الثقافيّ، خصوصاً لدى كبار السنّ الذين كانوا يقولون: "لا نريد أن تحكمنا ستّ"، وهو موقف كانت تتّخذه النساء أيضاً.
امرأة فلسطين الأكثر تأثيراً
ما حقّقته الفقيه من تأثير مجتمعيّ، والمنصب الذي تشغله أهّلاها لكي تحتلّ المركز العاشر في قائمة أقوى مائة امرأة عربيّة تأثيراً لعام 2012، التي تصدرها مجلة "أرابيان بيزنس".
وأعربت الفقيه عن دهشتها من التصنيف وسعادتها في الوقت نفسه، قائلة: "شعرت بسعادة غامرة لأنّ هذا التصنيف جاء لرفع اسم فلسطين في العالم العربيّ من خلال امرأة، بعد أيّام من رفع اسم فلسطين في الأمم المتّحدة، والحصول على صفة دولة مراقب غير عضو فيها".
وأعربت الفقيه عن اعتقادها أنّ السبب في منحها هذه المكانة، هو كونها استطاعت أن تطرق باباً كان مغلقاً لسنوات طويلة، وتغيّر عادات وتقاليد عمرها آلاف السنين، مشيرة إلى أنّها صنّفت في عام 2012 من بين أقوى 500 شخصيّة مسلمة، بينما منحها موقع سكوب المرتبة الثانية من بين أقوى 8 نساء في فلسطين في عام 2014.
طموحها "الأصعب" ويقلقها القانون
لم يتوقّف طموح الفقيه عند ما حقّقته، بل تسعى إلى نيل درجة الدكتوراة، كهدف في المنظور القريب. لكنّ طموحها البعيد يبدو كبيراً، حيث تقول: "طموحي ليس له حدود، وفي المدى البعيد، أفكّر في طرق أبواب مغلقة". لتجيب بعد ضحكة، عن سؤال عمّا إذا كانت تلك الأبواب تؤدّي إلى كرسي قاضي القضاة: "ليس خطأ. من وجهة نظري يمكن أن يتدرّج الإنسان في المناصب، إلى أن يصل إلى منصب قاضي القضاة. وهذا ليس خطأ، لكنّه في حاجة إلى إرادة رئاسيّة".
وإلى جانب طموحها، يعتري الفقيه قلق من القوانين القديمة المعمول بها، وحاجة إلى "منظومة تشريعيّة قادرة على تلبية حاجة المجتمع".
وتقول الفقيه: "قانون الأحوال الشخصيّة المعمول به سنّ في عام 1976، ولا زلنا نطبّقه على المجتمع الفلسطينيّ على الرغم من كلّ التطوّرات، وهذا يتسبّب في فجوة كبيرة بين القانون والواقع"، داعية الجميع إلى العمل من أجل سنّ قانون جديد عصريّ.
وحول ما تتمنّى أن تضيفه الفقيه إلى أيّ قانون جديد قد يتمّ سنّه، قالت: "القضاء الشرعيّ حسّاس بكلّ مكوّناته، ويمسّ المرأة والأسرة في شكل أساسيّ. لذلك، أجد أنّ أكثر القضايا التي يجب معالجتها في القانون الجديد هي حضانة الأطفال، خصوصاً البنات اللواتي يبلغن، إذ أنّ القانون يجعل الفتاة في رعاية الأب، على الرغم من أنّها تكون في أمسّ الحاجة إلى رعاية الأمّ، وتوجيهها في هذه المرحلة المهمّة في حياتها، إضافة إلى السماح للمرأة بتطليق نفسها، في حال كان الزوج عاقراً ولا ينجب".
وتؤمن الفقيه أنّ تجربتها الشخصيّة أثبتت أنّ المرأة قادرة على تولّي كلّ المناصب، متى أتيحت لها الفرصة، حيث يجب أن تقاتل من أجل الحصول عليها وتدافع عن ذلك، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على المرأة نفسها.
يلي نص المقابلة.
المونيتور: من هي خلود الفقيه؟
الفقيه: خلود محمد أحمد الفقية مواليد العام 1977، تعود اصولي الى القرى المهجرة في العام 48، بعد التهجير سكنت قرية "قطنش" قضاء القدس، انتمي لعائلة مكونة من 14 شخص، حصلت على شهادة الثانوية العامة في العام 1995 بمعدل 92%، ونلت درجتي البكالوريس والماجستير في الحقوق من جامعة القدس، متزوجة ولي ولدين وبنتين.
المونيتور: ما الذي دفعك لدراسة القانون؟
الفقيه: تشجيع المحيط والاهل، لما اتمتع به من شخصية قوية ولقدرتي على اثبات نفسي في كل المجالات.
المونيتور: كيف وصلت خلود الفقيه الى هذا المنصب "قاضية شرعية" ؟
الفقيه: انهيت دراستي الجامعية، وبدأت بالتدرب على اعمال المحاماة الشرعية والنظامية، ولفت انتباهي غياب المرأة عن القضاء الشرعي، ما خلق دافعا لدي للبحث عن اسباب ذلك، بحثت بالجانبين القانوني والشرعي عن الموانع التي تحول دون تولي المرأة هذا المنصب ولم اعثر على مانع قانوني كوننا نطبق القانون الاردني، الذي ينص على ان كل مسلم بالغ عاقل حاصل على درجة البكالوريس في الشريعة او القانون يستطيع تولي المنصب دون ان يحدد هل هو امرأة او رجل، كما لا يوجد مانع من الجانب الشرعي حسب المذاهب الاربعة.
تقدمت بالبحث الى قاضي القضاة في وقتها الشيخ تيسير التميمي وقلت له اني اريد ان اصبح قاضي شرعي، وكانت ردة فعله كالصاعقة، لان هذا الامر كان غير موجود، واصبحت افصح في الاوساط الاجتماعية عن رغبتي ان اصبح قاضية شرعية، وكان الجميع يستغرب ويستهجن الامر، بعد ذلك حصلت على الاجازة الشرعية والنظامية في المحاماة وفتحت مكتبا خاصا لي، كما عملت كمستشارة في عدد من المؤسسات ومثلت النساء في المحاكم الشرعية والقانونية.
في العام 2008 تقدمت باوراقي لامتحان لنيل منصب قاضية شرعية مع 45 مشارك وكنت الفتاة الوحيدة، حيث نجحت به بدرجة عالية ولان عدد الناجحين لم يكن يلبي حاجة المطلوب، تم عقد امتحان اخر ونجحت وقتها في اقناع صديقتي اسماء الدحيدي بالتقدم للامتحان، ليصدر في العام 2009 مرسوم رئاسي من الرئيس عباس بتعيينا كاول امرأتين في منصب القضاء الشرعي.
المونيتور: ما هي التحديات التي واجهتها خلود الفقيه؟
الفقيه: ابرز التحديات كانت من البيئة الاجتماعية سواء من المواطنين او بعض رجال الدين، بعض الفقهاء خطبوا في صلاة الجمعة انه لا يجوز للمرأة ان تتبوأ هذا المنصب ونُشرت مقالات في الصحف حول الموضوع، معتمدين على الاراء التي تلبي رغباتهم وتدعم وجهات نظرهم، حتى ان بعض القضاة رفضوا الامر ولم يتقبلوا ان تأتي امرأة تنافسهم في هذا المنصب الذي كان حكرا عليهم ويميزهم طبقيا واقتصاديا.
اما المواطنين فكانت ردة فعلهم رافضة لي، خاصة كبار السن، الذين كانوا يقولون "ما بترك ست تحكمني" واحيانا بعض النساء كانت ترفض ذلك بحكم التنشئة الاجتماعية، واذكر حادثة وقعت في محكمة رام الله المركزية، حين دخلت امرأة امرأة ورأتني وقالت "لا اريد امرأة تحكمني".
اعتقد ان المانع الذي كان يحرم المرأة، كان ثقافي اجتماعي وعادات وتقاليد، وهو "عرف" يعود الى تفضيل الذكر على الانثى في المجتمعات العربية، حيث ارتبط هذا المنصب بالرجل الملتحي الذي يلبس العمامة والطربوش، الكثير من المواطنين في المجتمع كانوا يستهجنون ذلك خاصة انهم اعتقدوا انه هذا المنصب له صفة دينية، وان هذا يجب ان يكون لرجل دين ، واليوم بعد 5 سنوات، استغراب المجتمع واستهجانه اصبح اقل، وكأن الامر اصبح عاديا او يتقبله البعض بامتعاض.
المونيتور: كيف تلقيت تصنيفك ضمن اقوى 100 امرأة عربية عام 2012؟
الفقيه: في الحقيقة تفاجأت بهذا التصنيف رغم انه لم يكن الاول، واعتقد انه اعتمد على الاكثر تأثيرا في المجتمع، ومن استطاع ان يطرق ابوابا مغلقة، ويغير عادات وتقاليد عمرها الاف السنين، كان خبرا مفرحا وسعدت به خاصة انني علمت به في شهر ديسمبر بعد ايام من حصول فلسطين على دولة بصفة مراقب غير عضو في الامم المتحدة، لاني رفعت اسم فلسطين في العالم العربي.
المونيتور: ماذا اضاف منصب القاضية الشرعية لخلود الفقيه؟
الفقيه: هذا المنصب جسد مقولة لكل مجتهد نصيب، وزاد ايماني ان الاسلام دين يسر رغم محاولات البعض تشويهه، وان الانسان يجب ان يكون باحثا وان المرأة انسان كامل وليس ناقص والله كلفها مثلما كلف الرجل ولها كل الحقوق، وهي قادرة على تولي جميع المناصب متى اتيحت لها الفرصة التي يجب ان تدافع وتقاتل من اجل الحصول عليها.
المونيتور: ما هي الاشياء التي تقلق خلود الفقيه؟
الفقيه: على المستوى المهني، يقلقني وضع القوانين القديمة، وحاجتنا الى منظومة تشريعية قادرة على تلبية حاجة المجتمع، فقانون الاحوال الشخصية يطبق منذ العام 1976، رغم كل التطورات في المجتمعات، وهذا ما يتسبب بفجوة بين القانون والواقع والمستجدات، خاصة ان المشرع الاردني الذي وضع القانون كان من الذكور ولم يراعوا حاجة النساء، لذلك نحن اليوم نحن بحاجة الى قانون احوال شخصية جديد.
المونيتور: ما الذي يحول دون سن قانون جديد للاحوال الشخصية؟
الفقيه: هناك عدة دراسات ومسودات للقانون قدمت من قبل مؤسسات حقوقية ونسوية ووافق مجلس القضاء الشرعي على معظم بنوده التي تنبع جميعها من الشريعة، لكن المجلس التشريعي معطل ولم يقره رغم الحاجة اليه، وحسب ما اعلم فأن قاضي القضاة محمود الهباش يعمل جاهدا لاصدار القانون بمرسوم رئاسي.
المونيتور: لو اتيحت لك الفرصة لاضافة بنود في القانون الجديد، ماذا ستكون؟
الفقيه: هناك قضايا مهمة وحساسة قد اغيرها خاصة قضايا حضانة الاطفال والطلاق، بمعنى ان اضيف بندا في القانون يسمح للمرأة التي يكون زوجها عقيما ان تطلق نفسها، وهذا لا يتضمنه القانون المعمول به، كما ان القانون الحالي لم يتناول قضايا الحضانة التي يجب ان تكون بالمشاركة حتى لو كان هناك انفصال، لتحقيق المصلحة الفضلى للطفل، كما ان قضايا حضانة الاناث حساسة جدا خاصة بعد بلوغهن مرحلة النضوج اذ تصبح بحضانة الاب بموجب القانون كون البنت تمثل الشرف والعرض، رغم ان الفتاة تكون بامس الحاجة الى الام لتوجييها في هذه المرحلة الحساسة.
المونيتور: اكثر القضايا التي تُظلم بها المرأة؟
الفقيه: اكثر القضايا التي ارى بها نكران للمرأة هي قضايا الميراث لما يمثله من سيطرة اقتصادية، اذ ان هناك محاولات لابتزاز المرأة بحكم العادات والتقاليد، واحيانا اخفاء اسم الاخت او زوجة الاب من الاوراق لحرمانها من الميراث، هناك مقاومة في الاعتراف بحقوق المرأة.
المونيتور: الى اين يمضي طموح خلود الفقيه؟
الفقيه: طموحي ليس له حدود، هدفي القريب ان احصل على شهادة الدكتوراة في القانون ، لكن في المدى البعيد افكر في طرق ابوابا مغلقة.
المونيتور: ان تصبحي قاضي القضاة ؟
الفقيه: ليس خطأ، هذا المنصب من وجهة نظري يمكن ان يصل اليه الانسان، بعد ان يتدرج في المناصب المؤدية له، وليس خطأ ان اكون قاضي قضاة، ولكن هذا بحاجة الى ارادة رئاسية .