بيروت - أكثر من خمسة أشهر مرّت، وما زال العسكريّون المخطوفون خلال معركة عرسال الأخيرة محتجزين لدى "داعش" و"جبهة النّصرة" في 2 آب/أغسطس 2014، وأكثر من مسعى تمّ من قبل أطراف عدّة دخلت على خطّ المفاوضات لإطلاقهم، لكن من دون جدوى، إلاّ أنّ هذا الملف سجّل أخيراً ثلاثة تطوّرات بارزة، وفقاً لمصادر أمنيّة مطّلعة عليه. وتمثّل التطوّر الأوّل في محاولة "داعش" السيطرة على مناطق إضافيّة في القلمون السوريّة المتاخمة للحدود اللبنانيّة - السوريّة. أمّا الثاني فظهور بوادر عدم تماسك في لجنة أهالي المخطوفين، عكسها التّصريح الأخير لشقيق أحدهم قائلاً: "إنّ لجنة أهالي العسكريّين لا تمثّل كلّ الأهالي، ونحن لن نلتزم أو نعترف بها".
والتطوّر الثالث هو لائحة المطالب التي حملها الشيخ وسام المصريّ، أحد المفاوضين الّذين دخلوا أخيراً على خطّ مساعي إطلاق العسكريّين، بعدما تمّ
تكليفه في كانون الأوّل عام 2014 من قبل "جبهة النّصرة".
ينتمي الشيخ المصريّ إلى التيّار السلفيّ، وهو حاليّاً إمام وخطيب في مسجد أبو الأنوار في سوق الذهب في طرابلس، ويوصف بأنّه "معتدل"، وهو أحد الشيوخ الّذين وقّعوا ورقة التّفاهم بين "حزب الله" والتيّار السلفيّ في لبنان عام 2008، والّتي ما لبثت أن جُمّدت بعد يوم على توقيعها بحجة ان الخطوة بحاجة لمزيد من الوقت للتفكير والتشاور ولِلَمْ شمل أهل السنة في لبنان، وذلك بعدما وجهت لها انتقادات شديدة من أطراف سلفية أخرى وصلت الى حد وصفها بـ"المهزلة".
لم تلق وساطة الشيخ المصريّ تشجيعاً من هيئة العلماء المسلمين ولا من القوى السياسيّة السنيّة، وبعده بأيّام برز اسم مفاوض جديد هو نائب رئيس بلديّة عرسال أحمد الفليطي المقرّب من "تيّار المستقبل". واللاّفت أنّ طرح اسم الفليطي قوبل سريعاً بردود فعل إيجابيّة من "تيار المستقبل" عبّر عنها وزير الداخليّة والبلديّات نهاد المشنوق ووزير العدل أشرف ريفي الذي قال عنه إنّه "يتمتّع بمصداقيّة عالية". كذلك، لم تمانع هيئة العلماء المسلمين تكليفه.
وفي وقت لم تظهر فيه بعد أيّ نتائج لتكليف الفليطي، عاد بعد أيّام اسم الشيخ المصريّ إلى الواجهة، حاملاً ثلاثة مطالب من "داعش" للإفراج عن العسكريّين، بعد أن التقى ممثلين عنهم. وهذه الشروط هي:
- تأمين اللاّجئين السوريّين من اعتداءات "حزب الله" (حسب تعبير "داعش") عبر إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح بين مناطق وادي حميد ومحيط الطفيل وعرسال الحدوديّة.
- تأمين معدّات مستشفى طبيّ معاصر مع مستودع أدوية متكامل لعلاج الجرحى من جرّاء اعتداءات عناصر "حزب الله" على السوريّين (حسب "داعش").
- إخراج جميع النّساء المسلمات المعتقلات في السجون اللبنانيّة على خلفيّة النزاع في سوريا.
كما نقل المصريّ تعهد "داعش" بعدم قتل أيّ عسكريّ، في حال أفرجت الدولة اللبنانيّة عن المعتقلتين سجى الدليمي (طليقة أمير "داعش" أبو بكر البغدادي) وعلا العقيلي (زوجة شقيق القياديّ في "جبهة النّصرة" أبو علي الشيشاني).
فماذا تعني هذه المطالب عسكريّاً؟ وما مدى احتمال موافقة الجانب اللبنانيّ عليها؟
لقد رأت المصادر نفسها أنّ اللاّفت في هذه النّقاط هو تذرّع "داعش" بخطر "حزب الله" على النّازحين السوريّين، لأنّ ربط هذا الخطر بالجيش سيقابل حتماً برفض لبنانيّ عموماً، وسنيّ تحديداً.
وفنّدت لـ"المونيتور" أبعاد هذه الشروط الثلاثة، فرأت أنّ المطالبة بإنشاء المنطقة العازلة المذكورة تعني عسكريّاً عدم وجود أيّ قوى مسلّحة شرعيّة أو غير شرعيّة في هذه البقعة، ممّا يعني ضمناً إخلاء الجيش لمواقعه في الشطر اللبنانيّ من هذه المنطقة، بعدما كان عزّز وجوده في محيط عرسال وقسم من جرودها بعد معارك 2 آب 2014. أمّا في المقلب الآخر من المنطقة المشار إليها، فيبرز انتشار "حزب الله" بهدف حماية القرى الشيعيّة اللبنانيّة، وصولاً إلى الطفيل السوريّة حيث يتواجد الحزب. وأكّدت المصادر أنّ تنفيذ المطلب الأوّل "مرفوض ومستحيل"، انطلاقاً من مبدأ السيادة الوطنيّة المؤتمن عليها الجيش الّذي لم يحدث أبداً أن انسحب من مناطق انتشاره أو أخلى مراكزه تحت ضغط أيّ جهة. كما أنّ انسحابه يعني تحويل المنطقة إلى ملاذ آمن للارهابيّين، بدلاً من تنظيفها، وتحقيق حلم الجماعات المسلّحة بإقامة دويلة لهم.
وبالنّسبة إلى "حزب الله"، الّذي لطالما جاهر بدعمه النّظام السوريّ سياسيّاً وعسكريّاً ورفض مراراً الدعوات إلى الانسحاب من سوريا وعدم التدخّل في حربها، فليس وارداً أن ينسحب من "الطفيل". ورأت المصادر أنّ خير دليل على صعوبة تحقيق شرط انسحاب "حزب الله" من سوريا هو استبعاد هذا البند من الحوار الجاري حاليّاً بينه وبين "تيّار المستقبل"، نظراً لاستحالة التوصّل إلى نتائج إيجابيّة في هذه النقطة .
أمّا مطلب تأمين مستشفى طبيّ لعلاج الجرحى، فيعني عمليّاً توفير الملاذ الآمن والعلاج لكلّ الإرهابيّين الّذين يوجّهون بندقيّتهم نحو الجيش اللبنانيّ في حال تعرّضهم لأيّ إصابة. كما أنّ توفير مستشفى مماثل سيغني المصابين عن التوجّه إلى أيّ من المستشفيات اللبنانيّة، مما يبقيهم بعيدين عن خطر ملاحقتهم أو توقيفهم. وهنا، تذكّر المصادر بنجاح الجيش بتوقيف أمير "كتائب عبد الله عزّام" ماجد الماجد والإرهابيّ جمال دفتردار، نتيجة رصدهما ومتابعتهما، إثر لجوئهما إلى أحد المستشفيات للمعالجة. وأكّدت المصادر أنّ هذا الطلب مرفوض أيضاً من الحكومة اللبنانيّة.
ويبقى الشرط الثالث، الّذي حمله المصريّ، هو إخراج كلّ النّساء المسلمات المعتقلات في السجون اللبنانيّة على خلفيّة النزاع في سوريا، إضافة إلى إطلاق سراح الموقوفتين الدليمي والعقيلي. واعتبرت المصادر أنّ المطالبة بالإفراج عن هؤلاء النّساء تقدّمت على طلب التّنظيمين بإطلاق الموقوفين الإسلاميّين في السجون، معتبرة أنّ هذا التّغيير بدأ منذ توقيف جمانة حميد الّتي كانت تقود سيّارة مفخّخة من جرود عرسال نحو الداخل اللبنانيّ ، وتطوّر مع توقيف الدليمي والعقيلي حتى بات إطلاقهنّ أولويّة للافراج عن العسكريّين. وفي ظلّ اختلاف مضمون ملفّ كلّ من الموقوفات الثلاث، استبعدت المصادر إطلاق حميد، خصوصاً أنّها ضبطت بالجرم المشهود. أمّا الدليمي والعقيلي فملفاهما ما زالا قيد الدرس، ورغم أنّ تهمة نقل الأموال والارتباط بتنظيمات إرهابيّة قد ثبتت عليهما، إلاّ أنّ إطلاق سراحهما ما زال محتملاً.
لم تجد مبادرة المصريّ حيّزاً فعليّاً في التداول السياسيّ والرسميّ، وهي لم تطرح حتّى للنّقاش على طاولة مجلس الوزراء. ومنذ اللحظة الأولى، ظهر عدم جديّتها مع خرقها الشرط الأساسيّ للتّفاوض، الّذي اتّفق عليه أخيراً وهو "مبدأ سريّة". وهكذا، تبقى الثابتة الوحيدة حتّى الآن من قبل الجانب اللبنانيّ تكليف اللواء عبّاس ابراهيم بهذا الملف.