لافتة جدّاً زيارة الموفد الرئاسيّ الروسيّ ونائب وزير الخارجيّة الروسيّة ميخائيل بوغدانوف لدمشق، آتياً إليها من اسطنبول، في 10 و11 كانون الأوّل الحاليّ. رسميّاً، وبعد لقاء المسؤول الروسيّ الرّئيس السوريّ بشار الأسد، وزّعت دمشق بياناً رسميّاً عن الاجتماع، جاء فيه أنّ الأسد أكّد أنّ "روسيا وقفت دائماً بجانب الشعب السوريّ، وبرهنت أنّها تؤيّد حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وتحترم سيادة الدول والقوانين الدوليّة".
كما كان لافتاً قول الأسد إنّ "سوريا على ثقة بأنّ أيّ تحرّك ديبلوماسيّ روسيّ سيكون مبنيّاً على هذه المبادئ. ومن هنا، فإنّها تتعاطى بإيجابيّة مع جهود روسيا بهدف إيجاد حلّ للأزمة". ومن جهته، قال بوغدانوف بعد الإجتماع، وفق البيان الرسميّ نفسه: "نبحث دائماً في العلاقات الثنائيّة والأوضاع بين الطرفين وتعميق العلاقات المستقبليّة بين بلدينا وشعبينا. لقد تطرّقنا إلى الحديث عن الأزمة في سوريا والحلّ السياسيّ، وكيف يمكننا إجراء هذا الموضوع في أسرع وقت ممكن. وإنّ مهمّتنا الأساسيّة والأهمّ محاربة الإرهاب" فهذا كلام يحمل الكثير من المعاني والمغازي والأسرار، مماّ يقتضي التّدقيق وفكّ الشيفرات.
إنّ جهات ديبلوماسيّة رافقت زيارة بوغدانوف، واطلعت على مجمل الحركة الروسيّة في سوريا ومحيطها، أكّدت لموقعنا أنّ حقيقة تلك الزيارة لا تفهم، إلاّ في ضوء تطوّرات العلاقات الروسيّة - السوريّة في الأشهر الثلاثة الماضية، ذلك أنّ تطوّراً بارزاً طرأ على طبيعة التّحالف بين دمشق وموسكو في الفترة الأخيرة، وهذا ما ظهر إلى العلن مع زيارة وفد سوريّ رسميّ اقتصاديّ رفيع للعاصمة الروسيّة، في النّصف الثاني من تشرين الأوّل الماضي. ويومها ضمّ الوفد السوريّ معظم المسؤولين الحكوميّين عن الملفّات الماليّة والإقتصاديّة في سوريا. وكان واضحاً أنّ الهدف من الزيارة كان في شكل أساسيّ، الحصول على مساعدات إضافيّة من موسكو إلى دمشق، غير أنّ المفاجأة جاءت في صدور تصاريح لاحقة للزيارة عن مسؤولين سوريّين، ينفون فيها أن تكون دمشق قد طلبت من موسكو أيّ قروض ماليّة أو ما سمّي خطاً إئتمانيّاً.
إنّ الجهات الديبلوماسيّة نفسها، والّتي طلبت عدم كشف هويّتها، شرحت لموقعنا أنّ هذا الكلام الرسميّ الموزّع في دمشق، جاء للتّغطية على واقع أنّ الوفد السوريّ الإقتصاديّ إلى موسكو كان قد ضمّن مطالبه فعلاً الحصول على قروض روسيّة، أو على ما سمّي خطاً إئتمانيّاً بنحو 3 مليارات دولار أميركيّ، إلاّ أنّ الجانب الروسيّ اعتذر عن تلبية هذا الطلب. وإن هذا الكلام السوري جاء لمجرّد التّغطية على الرفض الروسيّ بالتّعاون، وهو رفض معلّل بأمرين اثنين: أوّلاً، أنّ لموسكو أولويّات ضاغطة أخرى في تلك اللحظة، منها أزمة أوكرانيا وتراجع أسعار موارد الطّاقة عالميّاً. وثانياً والأهمّ، أنّ موسكو معنيّة بتوضيح بعض الأمور مع دمشق، ليس على صعيد المساعدات الإقتصاديّة والدّعم العسكريّ اللّوجستيّ فحسب، بل أيضاً على الصعيد السياسيّ والسلوك العام للبلدين الحليفين حيال الأحداث الدائرة في سوريا.
وعندها فهم السوريّون أنّ حلفاءهم يطلبون منهم التّنسيق معهم في السياسة والمواقف، كنوع من الشرط المستجدّ، لاستمرار التّعاون الإقتصاديّ والعسكريّ. وبعد هذا التطوّر، ذهب وزير الخارجيّة السوريّة وليد المعلم إلى موسكو، يرافقه مسؤولون سوريّون في المجالات الإقتصاديّة، ممّا أوحى بأنّ دمشق وافقت على المطلب الروسيّ. وبالتّّالي، بدأت مرحلة جديدة من القدرة الروسيّة على التّأثير على الموقف السوريّ الداخليّ، وعلى الإدارة السوريّة لجهة قضيّة الحرب المندلعة في هذا البلد منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
وبعد هذا التطوّر، برز تطوّر آخر لافت ومتزامن، تمثّل بانفتاح روسيا على تركيا وزيارة بوتين لأنقره. وبالتّالي، باتت موسكو تملك معظم أوراق التّعاطي مع أطراف الأزمة السوريّة.
ووسط هذا المشهد، باتت تفهم أكثر حركة بوغدانوف، فالرّجل جاء إلى بيروت، ولم ينتقل منها إلى دمشق، بل ذهب بعدها إلى اسطنبول، للقاء بعض أركان المعارضة السوريّة هناك، علماً أنّ من يسمّى بـ"معارضة اسطنبول السوريّة"، هم عمليّاً من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا والجماعة التي أوحى مسؤولو دمشق سابقاً بأنّهم يرفضون التعاطي معهم كليّاً، حتّى أنّ الرّئيس الأسد أطلق عليهم مرّة اسم "الإخوان الشياطين"، لكن رغم ذلك، بدا واضحاً أنّ التحرّك الروسيّ نجح في إحداث خرق في العلاقة بين الطرفين. وعلى الأرجح، تمكّن بفضل علاقته بأنقره من التّأثير على المعارضة السوريّة الإخوانيّة. وفي المقابل، تمكّن أيضاً من إقناع مسؤولي دمشق بفضل الضغوط الإقتصاديّة الّتي مارستها موسكو على حليفتها، في شكل سريّ وغير معلن.
وتختم الجهات الديبلوماسيّة نفسها بالقول إنّه من المبكر الحكم على نجاح المسعى الروسيّ في سوريا أو عدمه، لكن الظاهر أنّ مرحلة جديدة من الضغوط على الحكم قد بدأت في دمشق. فبعد مرحلة ضغط الخصوم والأعداء، بدأت الآن مرحلة ضغط الحلفاء والأصدقاء، وهي ممارسة أشدّ تأثيراً وفعاليّة في الواقع، وهذا ما يذكّر بكلام بارز أعلنه نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، في منتصف تشرين الأوّل الماضي، أيّ في شكل متزامن مع بدايات ذلك التحوّل الروسيّ - السوريّ، أكّد فيه "أنّ على الجميع توقّع تنازلات مؤلمة من أجل إنجاز الحلّ السياسيّ الذي ينقذ سوريا من أزمتها" لتكتمل المصادفات مع كون بوغدانوف نفسه قد اجتمع بالأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله، في بيروت، قبل انتقاله إلى اسطنبول ومنها إلى دمشق مجدّداً عبر العاصمة اللبنانيّة.
قد تنجح موسكو في تحريك المأزق السوريّ أو قد تفشل، لكن في الحالتين ما يقتضي المتابعة والرّصد، هو السؤال عمّا إذا كانت موسكو قد أصبحت في شتّى الأحوال، "شريكة" في إدارة دمشق للأوضاع السوريّة نفسها، أو حتّى أكثر من شريكة!