على مدى ثلاثة أيّام، حلّ الموفد الرئاسيّ الروسيّ نائب وزير الخارجيّة الروسيّة، ميخائيل بوغدانوف، ضيفاً على بيروت قبل أن يعود إليها مرة ثانية بعد زيارته تركيا ومن ثم دمشق.. أكثر من 20 شخصيّة سياسيّة لبنانيّة من مختلف الأطراف التقاها الرجل، ونحو عشرة تصاريح صحافيّة أدلى بها، تناول فيها كلّ شيء بما في ذلك الوضع في سوريا والمنطقة والملف النووي الإيراني والأوضاع اللبنانية والانتخابات الرئاسية وغيرها... لكنّه لم يعلن أيّ عبارة واحدة ذات مغزى واضح محدّد حيال الوضع اللبنانيّ. أكّد لموقعنا أكثر من مشارك في اللقاءات بين الضيف الروسيّ بقوى سياسيّة من الفريق المقابل، في حزب الله وفريق الجنرال عون أن خرج الذين التقوا الضيف الروسيّ بانطباع أنّه "باع كلّ طرف من بضاعته"، حيث أسمع كلّ فريق ما يحبّ أن يسمعه حيال موقف موسكو من الوضع اللبنانيّ، وهو ما أثار أكثر من تساؤل وعلامة استفهام.
فبين يومي الجمعة والأحد، أي من 5 حتّى 7 كانون الأوّل/ديسمبر الجاري، ملأ بوغدانوف أخبار الإعلام في لبنان. من البرلمان ولقاء رئيسه إلى مقرّ الحكومة اللبنانيّة والاجتماع برئيسها، إلى وزارة الخارجيّة، ثم جولة على كلّ القوى السياسيّة اللبنانيّة. عشاء لدى الزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط، ولقاء مع الزعيم المسيحيّ ميشال عون، وقبله اجتماع مطوّل مع كتلة فريق "المستقبل" السنيّة النيابيّة، فضلاً عن لقاء رئيسيّ الجمهورية السابقين أمين الجميل وميشال سليمان، وصولاً إلى رئيس كتلة حزب الله النيابيّة محمّد رعد، وانتهاء بشخصيّات أرثوذكسيّة وأخرى من مختلف الطوائف والاتّجاهات السياسيّة. لاحظ الذين تسنّى لهم المشاركة في تلك الاجتماعات أنّ كلام الزائر الروسيّ كان متبايناً بحسب المكان والمضيف. ظلّ بعض المحاور ثابتاً في مختلف محطّات زيارته، معظمها من العناوين العامّة، مثل الكلام عن أنّ روسيا تدعم استقلال لبنان واستقراره، أو أنّ إدارة بلاده تعتبر أنّ لا حلّ للأزمة في سوريا إلّا بالحوار، وصولاً إلى تأكيده أنّ بلاده تعوّل جدّياً على اتّفاق نهائيّ بين إيران ومجموعة الخمس زائداً واحداً في موضوع النوويّ الإيرانيّ.
غير أنّ هذه العناوين العامّة لم ترض مضيفيه اللبنانيّين. فهم كانوا يتلهّفون إلى سماع كلام روسيّ حول الأزمة اللبنانيّة، خصوصاً حول قضيّة الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة العالقة منذ 25 أيّار/مايو الماضي. غير أنّ المفاجأة كانت أنّ الزائر الروسيّ بدا خارج هذا الاستحقاق، كما أكّد لموقعنا أكثر من سياسيّ التقاه خلال أيّامه الثلاثة البيروتيّة. لا بل أظهرت المعلومات المتقاطعة لدينا، وكأنّ بوغدانوف حاول تغطية عدم إدارج الاستحقاق الرئاسيّ اللبنانيّ كبند جدّي على أجندة زيارته اللبنانيّة، بالظهور في مظهر المتوافق مع الجميع على هذا الموضوع. مثلاً، أكّد أحد نوّاب كتلة "المستقبل" النيابيّة، التي تمثّل أكثريّة المسلمين السنّة، لموقعنا رافضاً الكشف عن اسمه أنّ الضيف الروسيّ وافق كتلته قولها ضرورة انتخاب رئيس في أسرع وقت، وبأن يكون رئيساً توافقياًّ يشكّل الحدّ الأدنى المشترك بين جميع الأطراف. وحين عرض أعضاء الكتلة أمامه وجهة نظرهم القائلة بأنّ كلّ تأخير في انتخاب رئيس جديد سيؤدّي إلى تفاقم المأزق اللبنانيّ ومزيد من المخاطر على الصعد كافّة، سارع إلى تأييد هذا الكلام ودعمه، مؤكّداً سعي موسكو إلى تجسيد هذا الاتّجاه في اتّصالاتها مع جميع الأطراف الداخليّة والخارجيّة.
قيل لبوغدانوف أنّ لبنان لم يعد يحتمل رئيساً ضعيفاً أو تابعاً للخارج، أو لا يؤمّن حسن التمثيل المسيحيّ، بما يضمن التوازن بين اللبنانيّين ويحقّق مقتضيات الشراكة في السلطة. وشدّد هؤلاء أمامه على معادلة أنّ الانتظار في حالة من الشغور الرئاسيّ، حتّى توافر ظروف تسمح بانتخاب رئيس قوّي يؤمّن الحلول للأزمات اللبنانيّة، أفضل بكثير من الإقبال فوراً على انتخاب رئيس ضعيف، أو رئيس كيفما كان، ممّا قد ينذر بتفجير الوضع برمّته. وكان لافتاً، كما كشف لموقعنا مشاركون في هذه اللقاءات، أنّ بوغدانوف وافق مستقبليه على هذه المعادلة، وأيّدهم فيها وأعرب عن تفهّمه وتفهّم بلاده لمنطقها!
دفعت هذه المعطيات المتباينة حتّى التناقض إلى طرح التساؤل: ماذا خلف هذه الازدواجيّة في الكلام الروسيّ في بيروت حيال الملفّات اللبنانيّة؟ وهو تساؤل يحتمل أكثر من فرضيّة جوابيّة. منها مثلاً، أن يكون موفد موسكو مدركاً تماماً أنّ الملفّ اللبنانيّ لا يزال مؤجّلاً وأنّ أيّ تسوية إقليميّة حياله لم تنضج بعد، وبالتالي من المبكر إطلاق أيّ موقف حياله أو الإعلان عن أيّ التزام بمضمونه. الفرضيّة الثانية أن تكون زيارة بوغدانوف برمّتها غير معدّة لإطلاق أيّ مبادرة أو وساطة أو موقف، بل جاءت حصراً كخطوة بروتوكوليّة شكليّة، تلبية لدعوة وزير الخارجيّة اللبنانيّة، للاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس العلاقات الثنائيّة بين موسكو وبيروت، وهو ما كان موضوع احتفال خاصّ بالمناسبة. الفرضيّة الثالثة والأبرز، أن تكون زيارة بيروت معدّة في شكلّ حصريّ من أجل أهداف سوريّة لا لبنانيّة، بمعنى أنّ المضمون الوحيد للأيّام الثلاثة التي أمضاها بوغدانوف في بيروت، كان لقاءه بالأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله. وهو اللقاء الذي لم يتسرّب حول مضمونه أيّ كلام تفصيليّ، ممّا يترك المجال للتحليل بأنّ بوغدانوف قصد من الإطار العام الواسع لزيارته اللبنانيّة، التباحث مع نصرالله في الموضوع السوريّ، وتحديداً في التحرّك الروسيّ حيال الأزمة في دمشق، وخطّة موسكو لمحاولة جمع طرفي الصراع حول طاولة حوار جديدة، متمايزة بعض الشيء عن مسار مؤتمر جنيف، علماً أنّ نصرالله لاعب أساسيّ في الأزمة السوريّة، ميدانيّاً كما سياسيّاً.