لقد أثار النشاط الإعلاميّ لقائد قوّات "قدس" الإيرانيّة قاسم سليماني حساسيّة وردود فعل سلبيّة في العراق وبعض الدول الأخرى في المنطقة، إذ أنّه عمد إلى نشر صور له برفقة قيادات لميليشيات شيعيّة عراقيّة بعد كلّ انتصار تحقّقه القوّات العراقيّة ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة. ويُدّعى بأنّ الصور ملتقطة من أرض المعركة، وبأنّ الانتصار قد جاء بسبب تواجد سليماني في المعارك، وأنّ من دونه لا يمكن للجيش العراقيّ أن يصدّ قوّات التّنظيم أو يرجعها إلى الوراء.
ويدخل هذا النّشاط، ضمن التّسويق الإعلاميّ لموقف إيران الإقليميّ وتصويرها على أنّها الطرف الغالب في الصراع والمنقذ لشعوب المنطقة من موجات عنف التّنظيمات المتشدّدة. كما أنّ ايران لا تتردّد في توظيف دورها الإقليميّ في محادثاتها النوويّة مع الغرب وبناء علاقاتها مع الولايات المتّحدة الأميركيّة. ويندرج كلّ هذا ضمن الصورة العامة لمطالبة إيران من دول المنطقة والمجتمع الدوليّ بالاعتراف بدورها الإقليميّ.
وفي هذا السّياق، لا تأبى إيران استغلال القوى الاجتماعيّة الشيعيّة كالمرجعيّة الدينيّة في النّجف والانتفاع من اعتبارها الدينيّ والاجتماعيّ، وهي تعمد بين حين وآخر إلى نشر أخبار تأييد السيستاني للقيادة الإيرانيّة أو الحضور الإيرانيّ في العراق، ممّا يثير عادة ردّة فعل مباشرة من مكتب السيستاني، الذي يصرّ على الاحتفاظ بالموقف المستقلّ للمؤسّسة الدينيّة عن الصراعات السياسيّة بين الدول والقوى السياسيّة.
وعن آخر الأخبار الكاذبة الّتي نسبت إلى السيستاني، لقد نشرت صحف إيرانيّة في 12 تشرين الثاني/نوفمبر خبراً يشير إلى تأييد السيستاني للحضور العسكريّ الإيرانيّ في العراق بقيادة قاسم سليماني. وجاء في الخبر أنّ السيستاني يعتقد أنّ سليماني لبّى فتوى المرجعيّة للجهاد ضدّ داعش. ولذلك، فإنّ تواجده أمر مشروع في العراق. وفي مفارقة غريبة، تضمّن الكلام المنسوب إلى السيستاني تمييزاً بين الحضور الإيرانيّ والتّحالف الغربيّ في العراق، بحيث أنّ الأوّل مشروع، والثاني يعدّ انتهاكاً لسيادة العراق. ولقد نشرت صحف أخرى وثيقة تحتوي الخبر المذكور مخطوطاً ومختوماً من قبل مكتب السيستاني.
وسرعان ما تلاقفت الخبر مواقع إيرانيّة وعراقيّة على نطاق واسع، مرفقة بالرسالة الصوريّة للسيستاني. ويظهر التقويم الأوليّ للرسالة على أنّها مفبركة في شكل واضح، بالقياس إلى شكل الرسائل المعتمدة للمرجع، ناهيك عن نوع التّعابير المستخدمة فيها. كما أنّ الصحف التي نشرت الخبر، اعتمدت كلّها على الموقع الإخباريّ لوكالة "هرميس برس"، الّتي تعدّ من المواقع المعارضة لإيران والسيستاني في آنٍ معاً، وذلك بالعودة إلى نوعيّة الأخبار والتّحليلات التي تنشرها والتّعابير المسيئة الّتي تستخدمها ضدّ الجهتين. وهذا يظهر أنّ المنهج الإعلاميّ الذي يتّخذه سليماني في الآونة الأخيرة يصبّ في مصلحة الجهات المتشدّدة من حيث تصوير المعركة على أنّها ناتجة من التدخّل الإيرانيّ، ممّا قد يبرّر نشاط تنظيم الدولة الإسلاميّة لبعض المعتدلين السنة، على غرار الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
وقد سارع مكتب السيستاني، كعادته في حالات كهذه، إلى تفنيد الخبر بحسب ما جاء في موقعه الرسميّ: "نفى مصدر مسؤول في المكتب ما تداوله بعض الصحف والمواقع الإخباريّة من أنّ المرجعيّة الدينيّة العليا قد رحّبت بمشاركة بعض القادة العسكريّين الايرانيّين في العمليّات العسكريّة ضدّ داعش، وأنّها عدّت ذلك جزءاً من الجهاد. إنّ هذا الخبر ملفّق تماماً، ولم يصدر أيّ موقف في هذا الخصوص".
أضاف: قد سبق بيان موقف السيستاني الداعم للاستعانة بالدول الشقيقة والصديقة في محاربة الارهاب — ضمن الحكومة العراقية بدون المس بسيادة الدولة — من خلال خطب الجمعة في كربلاء المقدّسة ولا جديد في هذا المجال.
وما يظهر من متابعة مواقف السيستاني خلال سنوات ما بعد 2003 هو تأكيد استقلال القرار والموقف العراقيّ من التدخّل الأجنبيّ سواء أكان إقليميّاً أم دوليّاً، لكنّه في الوقت نفسه لا يعارض حصول العراق على مساعدة الجهات الصديقة من مختلف الأطراف ضمن الإطار القانونيّ للسيادة العراقيّة المتمثلة بالحكومة المنتخبة، خصوصاً أنّ العراق يشهد حاليّاً مخاطر كبرى من قبل التّنظيمات الإرهابيّة، الّتي يعجز العراق بنفسه عن التخلّص منها.
ويتجنّب السيستاني بشدّة المواقف التي قد تؤدّي الى إثارة الطائفيّة أو الاستغلال السياسيّ لجهة معيّنة ضدّ أخرى على الأراضي العراقيّة. ومن هذا المنطلق، جاء ردّه على الخبر المنسوب إليه حول قاسم سليماني. وفي خصوص علاقات العراق مع دول الجوار، أكّد السيستاني مراراً أنّ العراق في حاجة إلى علاقات متوازنة وشاملة مع كلّ الأطراف العربيّة وغيرها للتجنّب من وضع العراق في موقع تسوية الحسابات بين دول الجوار.
وعليه، أشاد المتحدّث الرسميّ للسيستاني الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 14 تشرين الثاني/نوفمبر بـ"تحرّك المسؤولين السياسيّين نحو دول الجوار لفتح صفحة جديدة للتّفاهم وعودة العلاقات من أجل أن تحلّ المشاكل التي يعاني منها العراق والمنطقة"، مشيراً إلى التّقارب الأخير بين العراق والسعوديّة.
وأخيراً، إنّ التّوازن الذي تمثّله مواقف السيستاني تتضمّن أهميّة كبيرة لبلد مثل العراق الذي يعاني من ثغرات سياسيّة وإجتماعيّة في بناء الدولة، والتي تفتح المجال أمام القوى الأجنبيّة للتدخّل في الشأن العراقيّ لمصالح بلادها السياسيّة او استغلال وضعه الداخليّ لصالح مقاصدها الإقليميّة.