إنّه "سجن روميه" الذي تدور حوله ألف قصّة وقصّة، وهو السجن الأكبر في لبنان، والمركزيّ الوحيد الذي شيّد في العام 1970 وفق مواصفات السجون الحديثة. يقع هذا السجن في شرق العاصمة بيروت، وهو يتألّف من 6 مبانٍ ومجهّز لاستيعاب 1500 سجين، لكنّه حاليّاً يضمّ أكثر من 3000 سجين، ولم ينخفض عددهم يوماً عن الـ2800، كما يقول وزير العدل السّابق شكيب قرطباوي.
لماذا بات اسم "سجن روميه" يرتبط بعبارات من عيار "قنبلة موقوتة" و"غرفة عمليّات إرهابيّة" و"إمارة الإسلاميّين المتشدّدين"؟ وهذا ما تردّد على لسان أكثر من مسؤول لبنانيّ. ولماذا يَحضر اسمه لدى كلّ تطوّر أمنيّ تشهده البلاد، و آخرها أحداث عرسال في مطلع آب عام 2014 إثر توقيف احد اخطر المطلوبين "عماد احمد جمعة" على حاجز للجيش ، ما ادى الى استشهاد 19 عسكرياً وخطف 35 آخرين. ولماذا بدأت تتردد معلومات عن مقايضة تطلبها "داعش" و"جبهة النصرة" مع سجناء روميه، تزامناً مع الوساطة التي حاولت ان تقودها أكبر هيئة للعلماء السّنّة في لبنان والمعروفة بـ "هيئة العلماء المسلمين"؟
اعتبرت مصادر أمنيّة مطّلعة على أوضاع هذا السجن أنّ وجه "سجن روميه" بدأ يتغيّر منذ أحداث الضنية في عام 2000 التي شكلت اولَ معركةٍ يخوضها الجيش اللبناني مع «مجموعة إرهابية» عُرفت بإسم «جماعة التكفير والهجرة»، استمرت ستة أيام وأسفرت عن سقوط 11 شهيداً من الجيش اللبناني والى مقتل 16 من المسلحين واعتقال 37 منهم. وبعدما كان يضمّ موقوفين ومحكومين بتهم كانت أقصاها العمالة لدول معادية والجرائم المنظّمة، بدأ يستقبل سجناء من "نوعيّة" أخرى: هم الموقوفون والمحكومون بتهم تتمحور حول الإرهاب. وهذا الواقع تكرّس أكثر بعد معركة نهر البارد في عام 2007 بين الجيش وقتح الإسلام، وأحداث عبرا في عام 2013 التي افتعلتها جماعة الإرهابي "أحمد الأسير" لدى إطلاق النار على حاجز للجيش، والمعارك المتكرّرة في طرابلس بين منطقتي باب التبانة السنية وجبل محسن الشيعية، وإثر المدّ الأصوليّ ونشوء المجموعات الإرهابيّة في الدول المجاورة، وخصوصاً سوريا وامتدادها إلى لبنان. فأصبح "سجن روميه" اليوم، يضمّ معظم المحكومين والموقوفين بتهم الإرهاب، نظراً لعدم صلاحيّة السجون الفرعيّة لاستيعابهم لاعتبارات أمنيّة، إضافة إلى قربه من حيث المسافة من المحكمة العسكريّة، ممّا يقلّل من مخاطر نقل السجناء.
هناك، تحت عنوان "الموقوفين الاسلاميين" يجتمع المساجين من "فتح الإسلام" و"جند الشام" و"القاعدة" و"جبهة النّصرة". عددهم يقارب حاليّاً الـ300، معظمهم لبنانيّون وفلسطينيّون وسوريّون، إلى جانب حاملي جنسيّات عربيّة أخرى وأجنبيّة. هم موقوفون بتهم القيام بأعمال إرهابيّة وإطلاق نار على الجيش والقوى الأمنيّة وتنفيذ تفجيرات والانتماء إلى تنظيمات إرهابيّة. البعض منهم صدرت في حقّه أحكام، فيما ما زال آخرون قيد المحاكمة. هؤلاء جعلوا من المبنى "ب" داخل السجن إمارة لهم، ولهم أمراؤهم. لقد خلعوا أبواب الزنزانات ليصبح المبنى مفتوحاً بالكامل على بعضه، وسط حضور أمنيّ خجول، لا بل شبه ملغى. إلى أيديهم تصل الأدوات الحادّة، ولهم قوانينهم الرّديفة لقوانين السجن، وخصّصوا غرفة داخل هذا المبنى لمحاكمة كلّ سجين يخالفها، وقاموا بتصفية بعضهم، من بينهم السجين غسان القندقلي الذي قضى في عام 2013 خنقاً، بعدما تعرّض للضرب والعنف المبرح، وفق تقرير الطبيب الشرعيّ. وحينها، تردد أن الدافع الذي أدى إلى مقتله على أيدي موقوفين من "فتح الإسلام"، يعود إلى أنه اكتشف خطة هروب كبيرة كانوا على وشك تنقيذها.
إنّهم يملكون كلّ وسائل الاتّصال مع العالم الخارجيّ، من هواتف خلويّة مجهّزة بخدمة الإنترنت، إلى أجهزة كمبيوتر وwifi متوافر باستمرار. كما أصبحت لهم مداخلاتهم بالصوت عبر وسائل الإعلام.
كيف بلغ الوضع داخل السجن هذا الحدّ من الفلتان؟ تربط المصادر الأمنيّة هذا الواقع بعوامل عدّة، أوّلها اكتظاظ السجن بالموقوفين الإرهابيّين، وهو غير مجهّز لاستيعابهم سواء أكان من حيث العدد أم الاجراءات الأمنيّة المتّبعة داخله. إضافة إلى تواطؤ بعض العناصر العسكريّين المولجين بالحراسة مع السجناء الإسلاميّين، وقد أحيل بعضهم على التّحقيق مرّات عدّة بتهمة الإهمال في الوظيفة، خصوصاً بعد عمليّات الفرار المنظّمة والمتكرّرة التي شهدها السجن، والتي أحبطت القوى الأمنيّة بعضها أحياناً.
ووفق المصادر، إنّ الانقسام السياسيّ والطائفيّ السائد في لبنان، مترافقاً مع تبنّي فريق من اللبنانيّين في شكل غير مباشر موضوع الإسلاميّين كـ"فكر"، فضلاً عن "التّأخير في المحاكمات". كلّ هذا شكّل منطلقاً لأطراف عدّة ولذوي المساجين للحديث عن "ظلم" يتعرّض له الموقوفون من جراء الاكتظاظ وعدم توافر أدنى الحقوق المدنيّة والإنسانيّة لهم، ممّا شكّل حالة تعاطف معهم ، تمّت ترجمتها بتحرّكات واعتصامات وبضغط في الشارع أدّى إلى "التّساهل" مع هؤلاء المساجين، وتطوّر حتّى بلغ ما هو عليه اليوم.
رفض الوزير السّابق قرطباوي في حديث لموقعنا، كل ما يُحكى عن "تأخير في المحاكمات" معتبرا انه يندرج في اطار كلام "الاستهلاك" بهدف إظهار المحكومين والموقوفين بصورة "المتعرّضين لظلم شامل". وأوضح أنّ هذا الكلام كان يصحّ بين عامي 2007 و2012، ولكن بعد هذا التاريخ بوشرت المحاكمات التي شملت معظم الموقوفين الإسلاميّين الذين باتوا "محكومين"، إما أمام المجلس العدليّ وإما أمام المحكمة العسكريّة، لافتاً إلى أنّ جلسات المحاكمة كانت تعقد كلّ يوم جمعة في القاعة التي أنشئت داخل "سجن روميه" لهذه الغاية.
لم غض النظر عن كلّ ما يجري داخل قضبان هذا السجن؟ اكتفى الوزير السابق قرطباوي بالقول: "إنّ الأسباب سياسيّة وتصبّ في إطار مسايرة تيّارات سياسيّة معيّنة"، مؤكّدأ أنّ معالجة هذا الملف في حاجة إلى "قرار سياسيّ" لم يُتّخذ بعد. ولفت إلى أنّ البحث في سبل ضبط الوضع داخل السجن تمّ في جلسات عدّة لمجلس الوزراء وفي اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع، وكان هناك اقتراح بقطع اتّصالات السجناء عبر التشويش عليها والإبقاء فقط على الخطوط الأرضيّة كي يتمكّنوا من التّواصل مع أهلهم ككلّ السجناء في العالم، لكن لم يصدر القرار. وقال: "على المساجين داخل "روميه" أن يعاملوا كسجناء، لا كسجّانين"، لافتاً إلى أنّ الموقوفين والمحكومين الإسلاميّين يتحكّمون بالقوى الأمنيّة في سجن روميه، وليس العكس.
إنّ المشهد داخل هذا السجن تقارنه المصادر بنمط وممارسات "جبهة النصرة" وتنظيم "الدولة الإسلاميّة" حيثما ينتشران. والفارق الوحيد بين هؤلاء المساجين وعناصر التنظيمين الإرهابيّين أنّ بعضهم داخل القضبان، في حين أنّ الآخرين منتشرون في الخارج. وفي هذا الإطار، أشارت إلى التّهديدات العديدة التي صدرت من قبل التنظيمين بإطلاق سراح موقوفي روميه، وأبرزها في تسجيل لزعيم تنظيم "الدولة الاسلاميّة" أبو بكر البغدادي تحدّث فيه عن "مرحلة جديدة تهدف إلى فكّ أسر المسلمين في كلّ مكان"، متعهّداً بـ"تصفية جزّاريهم من القضاء والأمنيّين والحرّاس". ولفتت المصادر إلى أنّ تنفيذ تهديد مماثل قد يتمّ إما عبر اقتحام "سجن روميه"، كما حصل في سجون أخرى في سوريا والعراق، وإما من خلال خطف عسكريّين بهدف مقايضتهم، وهذا ما حصل في أحداث عرسال الأخيرة. وأشارت إلى أنّه رغم رفض مبدأ المقايضة رسميّاً من قبل السلطات اللبنانيّة، إلاّ أنّ أوساطاً مطلعة على مسار معالجة هذا الملف لا تستبعد اللجوء إليه في مرحلة ما، مستندة إلى تجربة مبادلة الولايات المتّحدة الأميركيّة أحد جنودها السرجنت بو برغدال في أيار 2014 مقابل 5 من عناصر طالبان.
عديدة هي الأسماء التي تسعى الدولة الإسلامية وجبهة النصرة إلى إطلاق سراحها من "سجن روميه"، ولكن يُرجّح أن تضمّ اللاّئحة موقوفين بانتظار المحاكمة وليس محكومين، بما أنّ الموافقة على إطلاقهم قد تكون أسهل. وفي هذا الإطار، تضع المصادر عدم انعقاد جلسة محاكمة الموقوف عماد جمعة كي يبقى من ضمن فئة الموقوفين لا المحكومين لتشمله الصفقة.
إنّ سجن روميه بؤرة أمنيّة تضاف إلى مخيم عين الحلوة وطرابلس وجرود عرسال وغيرها. وطالما لم يُتّخذ القرار السياسيّ بضبط هذا السجن ومعالجة الوضع الشاذ داخله، سيبقى خطراً معرّضاً للانفجار في أيّ وقت.