قبل شهرَين، تلقّت نقابة المحامين في ديار بكر، المدينة الأكبر في الجنوب الشرقي ذي الغالبية الكردية في تركيا، طلباً من صبي قاصر يريد، بناءً على نصيحة أصدقائه، الحصول على الحماية من النقابة.
كتب المراهق الذي نمتنع عن ذكر اسمه بسبب تلقّيه تهديدات بالقتل، ما معناه: "تعرّضت للضرب من أفراد أسرتي بعدما علموا أنني مثلي الجنس. وبعد الضرب، صوّب والدي مسدساً نحو رأسي، ووضع قرآناً في يدي، وطلب مني أن أتوب. نجحت في الهروب في اليوم التالي. داهمت عائلتي منازل أصدقائي وضربتهم أيضاً. لا مكان ألجأ إليه. حياتي في خطر".
تقدّم المراهق، يرافقه محامون، بشكاوى لدى الشرطة ومكتب المدعي العام. نظراً إلى خطورة الوضع، وُضِع في دار لرعاية الأطفال في مدينة أخرى، من دون إطلاع عائلته على أي معلومات عنه. سيبقى في الدار حتى سنّ الثامنة عشرة، ثم يجد طريقة للاعتناء بنفسه.
إنها قصّة حزينة، لكن مع ذلك، يمكن اعتباره محظوظاً - حتى الآن - نظراً إلى أن عدداً كبيراً من المثليين في تركيا يُقتَلون على أيدي أنسبائهم في "جرائم شرف".
دخل مصطلح "جريمة الشرف بحق المثليين" القاموس التركي في العام 2008 عندما استخدمت صحيفة "الإندبندنت" هذه العبارة في تقرير عن مقتل أحمد يلديز، 26 عاماً، في ما بات يُعرَف لاحقاً بأنها أول جريمة شرف بحق المثليين في تركيا. لكن يُعتقَد أن العائلات أدّت دوراً في جرائم القتل هذه حتى قبل ابتكار المصطلح.
مقتل أحمد يلديز
كان يلديز الابن الوحيد لعائلة ثرية ومتديّنة من مدينة أورفة التركية. كان يعيش مع عشيقه في اسطنبول حيث كان طالباً جامعياً. عندما بدأ يتلقّى تهديدات من أسرته إبان علمها بأنه مثلي جنسياً، تقدّم بشكوى جنائية وطلب الحماية. بيد أن مكتب المدعي العام لم يقصّر فحسب عن تلبية طلبه بالحماية بل لم يبادر أيضاً إلى إجراء أي تحقيق على الإطلاق.
كان مقتل يلديز متوقّعاً. في 15 تموز/يوليو 2008، بعد ثلاثة أشهر فقط من تقدّمه بالشكوى، اخترقت ثلاث رصاصات جسده عندما خرج لشراء المثلّجات من أحد المقاهي في مقاطعة أسكودار في اسطنبول. لم ترفع أسرته دعوى قضائية لفتح تحقيق في مقتله، ولم تباشر المحكمة النظر في القضية إلا عندما تقدّمت امرأة بشكوى بسبب تعرّضها للإصابة خلال الهجوم على يلديز. انطلاقاً من الإفادات التي أدلى بها الشهود، وُجِّهت أصابع الاتهام إلى والد الضحية، يحيى يلديز، لكن الشرطة لم تتمكّن من إلقاء القبض عليه لأنه كان قد فرّ إلى الخارج.
وقد انقضت سنوات قبل أن تُذعن إحدى المحاكم في اسطنبول للطلبات المتكرّرة من المحامين، وتطلب من الإنتربول الدولي إصدار مذكرة بحث وتحرٍّ بحق يحيى الذي لا يزال فاراً من وجه العدالة بعد مرور ست سنوات، ويُعتقَد أنه في روسيا أو أوكرانيا حيث كانت لديه روابط في مجال الأعمال. وقد أرجئت الجلسة الأخيرة في القضية التي كان من المقرر عقدها في 29 نيسان/أبريل الماضي، حتى تموز/يوليو المقبل لأنّ المشتبه به لا يزال مفقوداً.
يعتقد وكيل الدفاع عن الضحية، فيرات سويل، أن يحيى لا يزال على اتصال مستمر بأسرته، وبالتالي يمكن اكتشاف مكانه عبر مراقبة اتصالات أفراد عائلته. إلا أن المحكمة رفضت طلباً بهذا الصدد في 17 جلسة، ما تسبّب بعرقلة أول قضية للنظر في جرائم الشرف بحق المثليين في تركيا.
قضية روزين جيجيك
روزين جيجيك، 17 عاماً، ضحية أخرى لجرائم الشرف بحق المثليين، وقد لقي مصرعه بطريقة مروّعة في تموز/يوليو 2012. فقد أبرحه والده واثنان من أعمامه ضرباً، وأطلقوا 14 رصاصة في رأسه وجسده قبل أن يلقوا به على قارعة الطريق قرب ديار بكر. وتم العثور على جثته بعد يومَين.
اعتُقِل والد جيجيك وعمّاه على الفور. على الرغم من أن المشتبه بهم أنكروا الاتهامات، إلا أن مكتب المدعي العام في ديار بكر وجّه إليهم تهمة القتل "لدوافع الكراهية حيال الميول الجنسية للضحية". في 10 شباط/فبراير الماضي، حكمت إحدى المحاكم في المدينة بالسجن المؤبّد على المتهمين الثلاثة. وكانت عقوبة الوالد أكبر مع حرمانه من الحق بالحصول على إطلاق سراح مشروط.
جريمتان وأنماط متشابهة
تعكس أوجه التشابه بين هاتين الجريمتين، الديناميات الثقافية السائدة في تركيا في موضوع الميول الجنسية المختلفة.
ففي الجريمتين، تنصّلت الأسرتان من الإجراءات القانونية. في قضية يلديز، تهرّب أقرباؤه، بما في ذلك والدته، من حضور جلسات المحاكمة وامتنعوا عن الإدلاء بمعلومات عن مكان وجود الوالد الذي يُشتبَه في ارتكابه جريمة القتل. وفي قضية جيجيك، حضرت والدة الضحية وأشقاؤه جلسات المحاكمة، لكنهم زعموا أن وفاته كانت حادثاً لا علاقة لوالده وعمَّيه به، حتى إنهم تهجّموا جسدياً على الناشطين المدافعين عن حقوق المثليات والمثليين ومزدوجي التفضيل الجنسي ومتحوّلي الجنس الذين أرادوا حضور المحاكمة. ربما يُظهر هذا النوع من السلوك أن العائلات تصفح عن الجرائم، وتعتبرها رداً طبيعياً على سلوك أبنائها. إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأسر تتعرّض لضغوط اجتماعية هائلة.
يتحدّر أحمد يلديز وروزين جيجيك من مدينتين في جنوب شرق تركيا حيث تفاقمت الأحكام المسبقة بحق المثليين جنسياً في الأعوام الماضية تحت تأثير العوامل السياسية. فعلى سبيل المثال، استهدف حزب "الدعوة الحرة" (هدى بار) - المرتبط بـ"حزب الله" التركي، وهو مجموعة إسلامية محظورة لا علاقة لها بـ"حزب الله" اللبناني - المثليين جنسياً في بيان صحافي في تشرين الأول/أكتوبر 2013: "إذا حاولوا ترويج الاضطرابات الذهنية والسلوك الشاذ في أوساط الأكراد باعتبارها تندرج في إطار الحريات، فسوف يدفعون الثمن". تتفشّى في المنطقة مثل هذه المواقف السياسية التي تستهدف المثليين مباشرة.
يشعر المثليون والمثليات ومزدوجو التفضيل الجنسي ومتحوّلو الجنس بقلق شديد. فقد تابعت مجموعات الدفاع عن حقوقهم المحاكمتَين عن كثب وسعت إلى الحصول على الموافقة كي تكون أطرافاً متدخِّلة في الإجراءات. إلا أن المحاكم رفضت طلبها.
في حديث مع "المونيتور"، شرح المحامي سويل الذي تابع القضيتين، لماذا كان من المهم أن يشارك المدافعون عن حقوق المثليات والمثليين ومزدوجي التفضيل الجنسي ومتحوّلي الجنس في إجراءات المحاكمة، قائلاً: "المثليات والمثليون ومزدوجو التفضيل الجنسي ومتحوّلو الجنس غاضبون وخائفون من جرائم القتل. يعرفون أن الأمر نفسه قد يحصل معهم. فالأشخاص الذين يقتلون أولادهم يستطيعون بسهولة أن يقتلوا آخرين ذوي هوية جنسية مماثلة. إذا منحتهم المحاكم حق التدخّل، فقد يمارس ذلك تأثيراً رادعاً".
واشتكى سويل من موقف القضاء من قتل المثليين: "المحاكم بحد ذاتها تتسبّب بالتمييز، إنها تفتقر إلى الإدراك الكافي في القضايا الجنائية. الأشخاص الذين يرغبون في متابعة المحاكمات يُنظَر إليهم وكأنهم من المريخ".
أضاف "يجب المبادرة بأسرع وقت ممكن إلى إقرار مشروع القانون الذي أحيل إلى مجلس النواب حول جرائم الكراهية، ينبغي إضافة عبارة ‘التوجّه الجنسي’ إلى المادة الدستورية عن المساواة، ويجب أن تفرض القوانين على المحاكم وموظّفي الخدمة المدنية التعامل بجدّية مع المسألة".
زيادة العقوبات بحق المرتكبين هو أول إجراء يمكن أن يتبادر إلى الذهن لوقف جرائم الشرف أو الكراهية بحق المثليين في شكل عام. بيد أن التأثير الرادع للأحكام المشدّدة مسألة سجالية. ما يهم فعلاً هو استئصال الدوافع التي تقود الفاعلين نحو ارتكاب جريمة القتل.
يتعيّن على تركيا اتّخاذ إجراءات عدّة لمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وجرائم الكراهية ضد المثليات والمثليين ومزدوجي الميول الجنسية والمتحوّلين جنسياً، لا سيما جرائم الشرف بحق المثليين. وإلا سنشهد على الأرجح تصاعداً في وتيرة هذه الجرائم.