كانت الجامعات العراقيّة تُعرف بازدهارها العلمي والتقني في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته. وكانت تخرّج أفضل الاختصاصيّين في مختلف الفروع العلميّة في العالم العربي، وكان يقصدها كذلك مئات الطلاب من البلدان العربيّة بسبب شهرتها ومكانتها المرموقة.
وقد ضاعت هذه السمعة الطيّبة منذ ثمانينيات القرن الماضي بسبب الدكتاتوريّة والحروب المستمرّة والحصار. وحتى اليوم، لا تلوح في الأفق أي بارقة أمل قد تنبئ بتطوّر نوعي لاستعادة المكانة العلميّة للجامعات العراقيّة. ويرجع السبب في ذلك إلى أزمات العراق في فترة ما بعد العام 2003، بالإضافة إلى السياسات غير الناجحة لوزارة التعليم العالي والمؤسسات الحكوميّة الأخرى المعنيّة بهذا الحقل.
ويظهر تقييم أداء الجامعات العراقيّة من قبل المؤسسات العالميّة المتخصصة بهذا الأمر مثل المجلس الأعلى للأبحاث العلميّة في أسبانيا، أنها في مرتبة متدنية جداً مقارنة بنظيراتها في العالم. إلى ذلك، لا تسجّل أي مشاركة علميّة فعالة من تلك الجامعات في المشاريع البحثيّة العالميّة، ولم تذكر أي واحدة منها في التقارير العلميّة في مختلف حقول العلوم والمعارف.
ويأتي ذلك على الرغم مما تمّ تحقيقه في خلال السنوات الأخيرة في العراق. فرئيس الوزراء العراقي المنتهية صلاحيته نوري المالكي كان قد أطلق مبادرة بعنوان "المبادرة التعليميّة " في العام 2009 لإرسال بعثات طالبيّة إلى الجامعات الأجنبيّة. وتشمل المبادرة إمكانيّة إرسال ألف طالب سنوياً في مختلف الفروع العلميّة، بالإضافة إلى البعثات التي تقوم بإرسالها دائرة البعثات في وزارة التعليم العالي العراقيّة سنوياً.
وكانت وزارة التعليم العالي العراقيّة قد اتخذت قراراً يقضي بمنع إرسال البعثات في مجالات العلوم الإنسانيّة، إذ إنها لا تشكل أولويّة لاحتياجات البلد. وقد أدّى القرار إلى بروز انتقادات واسعة من قبل المتخصصين في هذا المجال، لجهة أن العراق يعاني من أزمات ومشاكل اجتماعيّة كبيرة تتناولها عادة اختصاصات مختلفة في الدراسات الإنسانيّة. وعليه، فإن القرار سيمنع التنمية الإنسانيّة والاجتماعيّة في البلد، بل إنه يبتني على نظرة تجزيئيّة وغير شاملة لموضوع التنمية.
وقد اطلع "المونيتور" عبر اتصال هاتفي مع دائرة الإعلام في وزارة التعليم العالي العراقيّة، على التطوّر الكمّي في التعليم العالي في خلال السنوات الماضية. فقد أرسل لحد الآن 8500 طالب إلى خارج العراق، من ضمن البعثات إلى الجامعات الأجنبيّة. أما الميزانيّة المخصّصة لهذه البعثات فبلغت 450 مليون دولار أميركي في العام الحالي. كذلك اتجهت الوزارة إلى تأسيس جامعات جديدة وغالباً في مجالات تخصصيّة. فقد أنشِئت خمس جامعات جديدة في خلال السنوات الأربع الأخيرة، وثمّة مشاريع لمعهد النفط والغاز في البصرة من باب المثال على الاتجاه نحو الجامعات التخصصيّة. كذلك، فإن الوزارة خصّصت مليار دولار لتجهيز الجامعات العراقيّة بمختبرات حديثة تمّ إنشاء بعضها والبقيّة قيد التنفيذ.
وفي ما يتعلق بتحديث المناهج، شنّ وزير التعليم العالي العراقي علي الأديب في بداية هذا العام حملة على المناهج الدينيّة في كليات الشريعة . فوصف تلك المناهج بأنها متطرّفة وتكفيريّة، ولفت إلى أن عدداً كبيراً من قادة الجماعات المتطرّفة في العراق مثل تنظيم القاعدة هم من خرّيجي كليات الشريعة. وقد أثار موقف الوزير هذا من المناهج الدينيّة في كليات الشريعة، حفيظة الشخصيات الدينيّة والسياسيّة السنيّة إذ فُهم منها أنه يستهدف المناهج السنيّة فقط دون مثيلاتها الشيعيّة. فانتقد رئيس لجنة التعليم البرلمانيّة عبد ذياب العجيلي موقف الوزير واعتبره غير إيجابي، ودعا إلى دراسة معمّقة في هذا المجال قبل تنفيذ أي خطة.
من جهة أخرى، تعدّ الإجراءات الإداريّة المعقدة أحد الأسباب الرئيسيّة لضعف التطور في المجال التعليمي. وذلك من حيث الصعوبات الكبيرة في الحصول على إجازات لتأسيس جامعات جديدة بخاصة الأجنبيّة منها. وذلك في حين أن العراق بحاجة إلى تأسيس فروع للجامعات المرموقة العالميّة لكي تقوم بتحديث الحقل الجامعي وتربطه بالعالم الأكاديمي العالمي. وهذا ما تقوم به حكومة إقليم كردستان منذ سنوات، إذ عمد عدد من الجامعات الغربيّة المرموقة إلى فتح فروع لها في الإقليم وذلك بدعم مباشر من الحكومة المحليّة. وأبرزها الجامعة الأميركيّة في السليمانيّة التي افتتحت في العام 2007. ومن الغريب جداً أن وزارة التعليم العالي لا تعترف بشهادات هذه الجامعة على الرغم من شهرتها العالميّة ومكانتها العلميّة المرموقة.
ويبدو أخيراً أن إعادة بناء الحقل الأكاديمي العراقي بحاجة إلى رؤية معمّقة أكثر من التخصيصات الكميّة التي تقوم بها حالياً الحكومة العراقيّة. ما يفتقده العراق هو أولاً فتح باب التواصل مع العالم الأكاديمي المتحضّر على مصراعَيه، وثانياً تحديث المناهج بشكل واسع برؤية مهنيّة وليس دينيّة أو سياسيّة، وثالثاً توجيه البحث العلمي بحسب المعايير العالميّة وليس مجرّد نشر مواد فارغة من القيمة العلميّة، ورابعاً ترغيب الجامعات العالميّة بالاستثمار في قطاع التعليم العالي في مختلف أنحاء العراق.