على مدى السنوات العشرين الماضية، لم تثمر جهود السلام الأمريكية والدولية عن أي نتائج ملموسة لحلّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وكما قال بعض المراقبين، لم تنتج عملية السلام سوى "عملية من دون سلام". ومع ذلك، سبب التدخل الدولي ظهور مصطلحات جديدة أًضيفت إلى الخطاب، ومنها إنشاء "دولة فلسطينية قابلة للحياة". بالطبع، يمكن أن يقضي الأطراف سنوات في تحديد المعنى الحقيقي لمصطلح "قابلية الحياة".
بغض النظر عن مدى الحيرة التي ترمينا بها مصطلحات الصراع، الشيء الوحيد الذي لا يجب أن يتركنا في حيرة من أمرنا هو الأهمية المركزية التي يشكّلها غور الأردن بالنسبة للدولة الفلسطينية المُصوّرة. لا تُعتبر السيطرة الكاملة على غور الأردن أمراً ضرورياً لبقاء دولة فلسطينية فحسب، إنما أيضاً لتخفيف عبء تقديم الدعم المالي الأبدي لـ"لدولة القابلة للحياة" عن كاهل الولايات المتحدة والبلدان المانحة الأخرى. ببساطة، إنّ غور الأردن هو الآلية التي من شأنها ضمان الاستقلالية الاقتصادية للدولة الفلسطينية القابلة للحياة في المستقبل.
يغطّي غور الأردن، الذي تسيطر عليه إسرائيل منذ حرب العام 1967، أكثر من ربع المساحة الإجمالية للضفة الغربية – أي نحو 1500 كيلومتر مربع. يعيش حالياً هناك نحو 57 ألف فلسطيني. كثفت إسرائيل أنشطتها الاستيطانية في غور الأردن في بداية عملية السلام في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وقد ارتفع عدد المستوطنات في غور الأردن ومنطقة شمال البحر الميت إلى 39 مستوطنة تضم أكثر من 10 آلاف مستوطن. في العام 2003، أعلن رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون أنه سيتم فصل غور الأردن عن الضفة الغربية من خلال بناء جدار يصل إمتداه إلى 186 ميل. في مفاوضات السلام السابقة، أشارت إسرائيل إلى مخاوف أمنية لتبرير سيطرتها على غور الأردن. في ديسمبر الماضي، كشفت إسرائيل للمرة الأولى، مستعملةً مجدداً مبررات أمنية، عن وجود خطة للاحتفاظ بأراضي الغور بشكل دائم حين وافقت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع على "مشروع قانون لضم المستوطنات اليهودية في غور الأردن إلى إسرائيل وإخضاعها للقانون الإسرائيلي".
يتعين على وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، حين يحضّر للاتفاقية الإطارية بين إسرائيل والفلسطينيين، أن يتوخى الحذر كي لا يقع في فخ الأعذار الأمنية التي استعملتها الحكومات الإسرائيلية باستمرار لتبرير استيلائها على المزيد من الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يقوّض احتمالات تسوية الصراع في شكلٍ عادل. لا أحد يعلم قيمة غور الأردن الأمنية أكثر من رئيس الموساد السابق مائير داغان الذي اعترف الشهر الماضي أن الاستيلاء على غور الأردن غير أساسي بالنسبة لأمن إسرائيل. ووصف طلب القادة الإسرائيليين بالمحافظة على السيطرة على غور الأردن للدفاع عن الحدود الشرقية بأنه "تلاعباً بالمسائل الأمنية" لأغراض سياسية. وقال في هذا الصدد: "ليس هناك جيش عراقي، وليست هناك جبهة شرقية. وهناك سلام مع الأردن. أنا لا يعجبني الحديث عن الغور وكأنه اساسي لأمن إسرائيل".
ليتمكن اتفاق كيري الإطاري من جعل احتمالات إرساء السلام في المنطقة مستدامة على المدى الطويل، لا بدّ من النظر إلى غور الأردن بشكلٍ أساسي من ناحية الإمكانيات الاقتصادية. يتطلب السلام المستدام، بشكلٍ خاص، تعريفاً إضافياً لدولة فلسطينية قابلة للحياة حقاً. حالياً، تساهم الدول المانحة بأكثر من 2 مليار دولار سنوياً لضمان بقاء مشروع السلطة الفلسطينية. في حال تم استخدام غور الأدرن بشكلٍ صحيح، لا بدّ أن يكون قادراً على توفير معظم هذا المبلغ.
يمكن للمزارعين الاستفادة من مناخ غور الأردن الاستوائي ومن تربته الخصبة لزراعة المنتجات على مدار السنة. إن خصوبة الأرض تجعله مناسباً لتطوير الصناعات الزراعية. هذا وقد تزدهر الصادرات نظراً لمتطلبات الأسواق العربية والأوروبية والأمريكية، مما يجذب استثماراً ناجحاً في مجال الصناعة الغذائية. ومن شأن هذا التطور أن يحوّل المنطقة إلى مركز لأصحاب المشاريع، وأن يخفف من ازدحام السكان في رام الله ونابلس والخليل وغيرها من مدن الضفة الغربية. يقبع العديد من الشباب الفلسطيني المتمرسون في مناطق لا تعكس خلفياتهم الإجتماعية والإقتصادية ولا طموحاتهم المستقبلية. ما إن تبدأ الشركات الخاصة باستحداث فرص العمل، فإنها ستخفف الضغط الذي يثقل كاهل السلطة الفلسطينية لإضافة المشاركات البيروقراطية غير الضرورية.
علاوة على ذلك، سيتمكن الفلسطينيون من أصحاب المشاريع من استعمال كميات كبيرة من المعادن الثمينة الموجودة في البحر الميت، ومن الاستفادة أيضاً من الفوسفات والصوديوم والكالسيوم وغيرها. يمكن أن يساعد البحر الميت في تنويع الاقتصاد، وفي استحداث الصناعات الحديثة التي من شأنها أن تتوسع لتتخطى الصناعات الغذائية والصناعات الزراعية.
غير ذلك، يضم غور الأردن عدداً من المواقع الأثرية والطبيعية، بما في ذلك أريحا التي تُعد أقدم حضارة على وجه الأرض. ويمكن تطويره لاستيعاب الملايين من السياح سنوياَ. هذا وتضمن أهمية الغور للمسيحيين سياحة قوية على مدار السنة.
ومن المصادر الاقتصادية الرئيسية الأخرى التي يمكن للدولة الفلسطينية الإستفادة منها نذكر الضريبة التي يمكن جمعها من أولئك الذين يعبرون غور الأردن. يدفع نحو 900 ألف فلسطيني 45 دولاراً لعبور هذه الطريق سنوياً، ويفترض أن يتم تقسيم هذه الرسوم بالتساوي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. تأخذ اسرائيل المال، إلا أنها غالباً ما تمتنع عن إعطاء السلطة الفلسطينية حصتها في الوقت المحدد، حاجبةً عنها فرصة اقتناص المكاسب السياسية، فتوقّض بالتالي من السيادة المتواضعة التي تتمتع بها كدولة.
وتتمتع المياه الجوفية العذبة التي تختزنها أراضي غور الأردن بأهمية مماثلة. لما كان العديد من المحللين يتوقعون أن تنشب الحرب التالية في الشرق الأوسط بسبب المياه، فإن تمكين السلطة الفلسطينية من السيطرة على الموارد المائية في وادي الأردن سيساهم في إرساء سلام مستدام.
يمثل وادي الأردن العمود الفقري الإقتصادي للدولة الفلسطينية المستقبلية. لذلك فإن أي ترتيبات لا تتعرف بالأمر على هذا النحو ستقضي نهائياً على روح "قابلية الحياة" التي تحظى باعتراف دولي إجماعي. في حال قدم كيري التنازلات بشأن كمال الدولة الفلسطينية المستقبلية من خلال فشله في ضمّ غور الأردن إليها، فإنه سيعدّ نفسه للقيام بالمزيد من الزيارات إلى المنطقة وسيترك لمن يأتي من بعده مهمة مستحيلة تتجلى في إدارة الفوضى التي تعم على أراضيها.