سلوك تنظيم "الدولة الإسلاميّة في العراق والشام" (داعش) في خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، يشير من دون لبس إلى أنه ليس منشغلاً بالمعارك في الأنبار بقدر انشغاله بتوسيع رقعة نفوذه إلى مناطق أخرى.
ومعطيات هذا الاستنتاج على الخريطة العراقيّة تشير إلى أن "داعش" كثّف وجوده في خلال الشهور الماضية في دائرة واسعة حول بغداد. ويبدأ ذلك من إسقاط بلدة سلمان بيك (شمالاً) وبعدها محاولة السيطرة على بلدتَي العظيم والسعدية في ديالى ومن ثم التوجّه جنوباً إلى مناطق النهروان وصولاً إلى شمال بابل وبلدتَي جرف الصخر والمسيب. وتكتمل الدائرة بمناطق غرب بغداد مثل الرضوانية وأبو غريب وصولاً إلى الفلوجة، التي ترتبط هي الأخرى بهذا القوس مع مدن شمال بغداد مثل الطارمية والضلوعية وسامراء وصولاً إلى جبال حمرين حيث تقع بلدة سليمان بيك على تخومها.
هذه الدائرة الكبيرة التي ينتشر وفقها مسلحو "داعش" حول بغداد بالإضافة إلى وجود التنظيم المحسوم في الموصل، لا يشيران إلى أنه يستهلك قوّته في الفلوجة، لكنه وكما يبدو يسعى إلى إنتاج "فلوجات" جديدة على امتداد هذا القوس.
تبدو المصادر الأمنيّة العراقيّة مدركة لتحرّكات "القاعدة"، وهي تشرح لـ"المونيتور" أن طريقة توزيع القوى الأمنيّة والتشكيلات العسكريّة تأتي بدورها على امتداد قوس محيط بغداد.
لكن القضيّة لا تبدو مقترنة فقط بقرار تنظيم "داعش".
ففرص التنظيم في خلق بيئات مضطربة أمنياً أو في خارج سلطة الدولة على غرار الفلوجة، ليست كبيرة إلا إذا كانت مرتبطة كما هي الحال في الفلوجة باضطراب عشائري أو احتجاجات.
بعبارة أخرى، يشجّع "داعش" المناطق السنيّة على امتداد قوس محيط بغداد على توسيع تجربة الفلوجة، على أن لا يكون التنظيم قائداً للاحتجاج وإنما يسلّم مسلحي العشائر المسؤوليّة.
وهذه الإستراتيجيّة تبدو غريبة تماماً عن سلوك تنظيم "القاعدة" التقليدي الذي يسعى إلى فرض علمه ووجوده لأغراض دعائيّة لمفهوم "الدولة الإسلاميّة".. فتنازل "داعش" عن القيادة في الفلوجة وتصدير مجموعات أخرى إلى كركوك وديالى وصلاح الدين وشمال بابل للقيام بمهمات مشابهة، يؤكّدان أن التنظيم يفهم أكثر من أي وقت سابق التركيبة الاجتماعيّة والدينيّة في المناطق السنيّة. فيتجنّب استفزاز تلك التركيبة، بل ويستخدمها لصالحه ما دامت تتّفق مع أهدافه النهائيّة.
وبالعودة إلى الجذر السياسي لأزمة المناطق السنيّة عموماً ومنها الأنبار، فإن توسّع الهوّة بين الدولة وبين سكان المناطق السنيّة يمنح ميزة إضافيّة لتنظيم "داعش"، وهي القدرة على الاجتماع مع العشائر والسكان على هدف واحد، حتى في حال كانت الخلافات الفعليّة بين العشائر السنيّة و"داعش" أكبر من خلافاتها مع الحكومة.
إن قدرة التنظيم على تصدير الهدف المشترك الذي رفعته التظاهرات طوال العام 2013، وتعميق إحساس السنّة بالتهميش والإقصاء، بل واستخدام قضيّة الفلوجة للدلالة على أن بإمكان العشائر لو أرادت قيادة تمرّد كبير لا تملك القوات الحكوميّة قدرة على مواجهته، كلها عوامل يمكن تلمّسها على الأرض في حراك "داعش" وتمدّده الهادئ في المناطق السنيّة التي ترفضه من حيث المبدأ.
هنا تحديداً يمكن الحديث عن دور الدولة وجذر الأزمة السياسي. فالتعامل مع ما يحدث في مجمل المناطق السنيّة وافتراض أن المعركة محصورة في الأنبار، خطأ إستراتيجي يمكن أن ترتكبه الحكومة. فحلّ أزمة الأنبار عبر تفاهمات مع العشائر لن يقود إلى أي نتائج على مستوى شكاوى المناطق الأخرى. فـ"داعش" تستثمر شكاوى تلك المناطق المؤهلة للإنفجار، لإنتاج فلوجات مختلفة.
المشهد أكثر تعقيداً من الفلوجة. وحله يبدأ من تهديم الجسور التي يجهد "داعش" في بنائها مع السكان، خصوصاً في القرى النائيّة وبين المتضرّرين من سلوك القوى الأمنيّة.
البدء بتهديم هذه الجسور لن يكون إلا عن طريق إستراتيجيّة الدولة، لا إستراتيجيّة الحكومة. وإستراتيجيّة الدولة تقوم على إعادة تعريف العلاقة بينها وبين السكان المحليّين بصرف النظر عن انتماءاتهم. وكل مدخل سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً أو اجتماعياً يصل إلى هذه الغاية، يندرج ضمن الحل الدائم.