لا يخفى على أحد الدور البارز والمفصلي الذي قام به المرجع الدينى الأعلى للشيعة في العراق السيّد علي السيستاني في صياغة الإطار العام لنظام ما بعد العام 2003. فهو أصرّ على تدوين الدستور بأيد عراقيّة وتوكيل أمر الدولة إلى الشعب عبر الآليات الديمقراطيّة ومن ثم إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن.
كذلك كان له دور بارز في رسم معالم المشهد السياسي العام في العراق في السنوات العشر الأخيرة. فقد ساهم في تشكيل "الائتلاف الوطني العراقي" ليجمع من خلاله الصوت الشيعي ضمن إطار سياسي موحّد من دون الانحياز إلى هويّة طائفيّة ضدّ أخرى. وقد ساعد الائتلاف على تجاوز العقبات في العلاقات الداخليّة في ما بين مكوّناته وأيضاً في علاقاته مع القوائم الانتخابيّة الأخرى. وهذا ما أدّى بالمكوّنات السياسيّة الأخرى أيضاً إلى التواصل معه بشكل مباشر أو غير مباشر، للحصول على مساعدته في حلحلة المشاكل المستحدثة مع منافسيها وبالخصوص الائتلاف الوطني.
لكن السيستاني بدء منذ الانتخابات السابقة في العام 2010 يشعر بأن السياسيّين العراقيّين بمجملهم غير كفوئين وهم يستغلون دعمه الديني والاجتماعي، أكثر من استثمارهم إياه إيجابياً لتطوير الوضع العراقي العام. وكان السيستاني قد صرّح مراراً بأنه يطمح بدولة مدنيّة متطوّرة في العراق على أن تكون منسجمة مع الحالة الدينيّة العامة في البلد، وليس أكثر من ذلك. لكن ما أثبته سياسيّو الأحزاب الدينيّة كان ينقض الاثنَين، إذ لم يظهروا جهداً بارزاً نحو التطوّر من جهة وفي الوقت نفسه هم يميلون نحو الدولة الدينيّة المتشدّدة من جهة أخرى.
فأدّى ذلك كله إلى تغيير منهج السيستاني، من داعم للنظام السياسي إلى منتقد يطمح إلى سدّ الثغرات وإصلاح ما تفسده السياسة. فلم يساهم بدعم أي قائمة انتخابيّة في العام 2010، ووقف كذلك على الحياد الكلي تجاه كل القوائم والكتل الانتخابيّة، ما أدّى إلى تأخير تشكيل الحكومة لمدّة ثمانية أشهر.
إلى ذلك، قام السيستاني بدعم المطالب الشعبيّة لرفع مستوى الخدمات وتحسين أداء الحكومة. وحين لم يحصل على ردّ إيجابي من الحكومة على تلك المطالب، أغلق بابه أمام الكتل المشاركة في الحكومة كلها ليعلن عدم رضائه عنهم. واستمرّ المتحدّثون الرسميّون باسمه بانتقاد أداء الحكومة في خطبهم وبياناتهم الدينيّة والاجتماعيّة.
وما حدث مؤخراً من إصرار من قبل الكتل النيابيّة على الاحتفاظ بامتيازاتها غير المتعارف عليها على الرغم من مطالب الجماهير والمرجعيّة برفعها، أغضب السيستاني بشكل لم يحدث سابقاً. فقد أصدر فتوى يدعو من خلالها الناخبين إلى أن يحسنوا الاختيار كي لا يندموا لاحقاً، ويطالبهم بأن يميّزوا ما بين الصالح والطالح، وأن يفرّقوا بين من يبذل ما في وسعه لخدمة الناس ومكافحة الفساد وبين من لا يعمل إلا لمصلحته الشخصيّة ومصلحة جماعته. وفي الوقت نفسه حثّ الجميع على المشاركة الفعالة والواعية في الانتخابات المقبلة.
وقد علم "المونيتور" من مصادر مقرّبة من مكتب السيستاني، أنه تمّ إبلاغ جميع وكلائه بأن يقفوا على مسافة واحدة من جميع الكتل النيابيّة، وفي الوقت نفسه أن يدعوا إلى عدم التصويت لكلّ فرد تورّط في ملف فساد أو ثبت فشله في المرحلة السابقة من دون أن يذكروا الأسماء بالتعيين. وقد أوصى السيستاني أيضاً بشكل غير مباشر قادة الكتل الانتخابيّة، بأن يرشّحوا وجوهاً جديدة وكفوءة للفوز بثقة الشارع مجدداً.
وفي تطوّر بارز في علاقات الحكومة مع المرجعيّة، قام مجلس الوزراء بالتصويت على مشروع قانون الأحوال الجعفريّة على الرغم من عدم موافقة السيستاني عليه وتعرّضه لإهانات مسيئة من قبل بعض قادة الأحزاب الدينيّة بسبب ذلك. وقد فُهِم من ذلك أن الأحزاب الدينيّة تحاول سحب البساط من تحت أقدامه بعدما صعدت على أكتافه، للحكم. أضف إلى ذلك أنه یحمل في داخله معالم لتحالفات سياسيّة جديدة. فحزب "الدعوة" وهو العضو الرئيسي في الائتلاف الحاكم المعروف بـ"دولة القانون"، عرف بوضوح أن من الصعب جداً الحصول على دعم القوى الشيعيّة الكبرى التي حصل عليها من قبل. لذا توجّه نحو الكتل الصغيرة والمنشقّة عن الكتل الكبرى ذات التوجهات الأيديولوجيّة الشوفينيّة الشيعيّة، من قبيل حزب "الفضيلة" صاحب مشروع قانون الأحوال الشخصيّة الجعفريّة، وجماعة "عصائب أهل الحق" المتشدّدة والمنشقّة عن التيار الصدري و"منظمة بدر" المدعومة مباشرة من إيران.
في ضوء ما سبق، يبدو أن السيستاني يشعر بأنه ارتكب خطأً فادحاً بدعمه الأحزاب الإسلاميّة، وهو يحاول الآن أن يحافظ على استقلاليّة المؤسسة الدينيّة بإبعادها عن التلوثات السياسيّة أولاً، ويحاول ثانياً أن يصحّح المسار السياسي للبلد من دون التورّط بدعم جماعة محدّدة قد تكرّر أخطاء سلفها.
ما يستخلصه المتابع لمواقف السيستاني طوال السنوات العشر الماضية هو أنه يضطلع بدور فريد في تاريخ العلاقات الدينية – السياسيّة في تاريخ التشيّع. فهو يستجيب لدوره الاجتماعي واسع النفوذ في المجتمع العراقي من خلال التأثير على قاعدته الشعبيّة وتوجيهها نحو القرار الصحيح. لكن في الوقت نفسه هو يتجنّب التأثير السياسي من نوع التدخّل المباشر أو حتى غير المباشر في رسم المشهد السياسي للبلد.