تستمر مؤشرات التمييز حيال المرأة اللبنانية، بشكل متسارع ومتصاعد. وبدأت معالمه تنتقل من مجرد السلوك الفردي، إلى العنف القاتل. كما من نطاق الحياة العائلية المحكومة لبنانياً بذهنيات الطوائف وعصبيات الأفكار الدينية القديمة، إلى نطاق الحياة الشخصية والحياة العامة. وحتى إلى محاولة إسقاط رأي عام وأعراف خارجة عن الأنظمة والقوانين، لم يعرفها لبنان من قبل.
تكفي جردة سريعة لآخر الحوادث المسجلة على هذا الصعيد. فبعد قضية الطفلة إيفا التي خطفت في تشرين الأول الماضي (راجع مقال آلمونيتور عن الموضوع) تحول هذا التصرف إلى ما يشبه الظاهرة أو القاعدة. خصوصاً حيال النازحات السوريات. إذ غالباً ما نشرت وسائل الإعلام اللبنانية، كما المنظمات غير الحكومية الناشطة دفاعاً عن حقوق المرأة، تقارير وتحقيقات حول أوضاع الفتيات السوريات النازحات، وحتى الأطفال منهن، والتي مصفت غالباً بالمأساوية. فإلى جانب ما يتم التعارف لدى تلك المنظمات على وصفه بـ "دعارة الأزمة" أو الحاجة، انتشرت في معظم مناطق النزوح السوري أخبار عن "أسعار" محددة للزواج، أو "لبيع" الفتيات السوريات، حتى القاصرات منهن. وكان لافتاً أن هذه الظاهرة لم تلبث أن تفشت وشاعت وأثارت حوادث أمنية عدة واضطرابات، خصوصاً في بعض المناطق اللبنانية النائية، ذات الطابع الريفي الزراعي، مثل عكار في أقصى شمال لبنان.
ففي 24 كانون الثاني أعلن عن خطف طفلة لبنانية، عمرها 12 عاماً فقط، في قريتها في عكار، بهدف الزواج منها. ورغم الضجة التي حاولت المنظمات النسوية إثارتها ضد الخاطف وجنايته القانونية الموصوفة، إلا أن القضية انتهت بزواج الطفلة من خاطفها. وذلك بموافقة أهلها، وبمباركة ما يسمى في لبنان القضاء الروحي. وفي هذه الحالة كان المعني المذهب الإسلامي السني، الذي يقر بزواج الفتاة لمجرد بلوغها الحيض، بين 9 و13 سنة. علماً أن دوافع الأهل إلى القبول تتراوح بين الحاجة المادية، والحرص على "ستر الفضيحة" في حال عودة الطفلة إلى بيت ذويها. وصولاً طبعاً إلى ذهنية عامة متأثرة بالمزاج الديني الذي يقبل ويبرر مثل تلك الارتكابات.
ولأن مخالفات كهذه غالباً ما تنتهي من دون مساءلة ولا محاسبة، تكررت المأساة سريعاً، وفي عكار أيضاً، وفي البيئة الدينية نفسها. إذ تبين في 4 شباط الجاري أن أحد الأشخاص أقدم على خطف ابنة أخ زوجته، وعمرها 14 عاماً، والقوة طبعاً، من أجل الضغط على أهلها ليقبلوا زواجه منها. علماً أن بعض قوانين الطوائف الإسلامية في لبنان، لا تجيز زواج القاصرات وحسب، بل أيضاً تنص على تعدد الزوجات، حتى أربع زوجات في آن واحد.
لكن أهل الطفلة رفضوا الخضوع هذه المرة لتهويل النسيب الجاني. فانتقلت القضية إلى السلطات الرسمية، التي تحركت وداهمت منزل الخاطف وحررت الطفلة. لكن من دون أن يتمكن أي طرف من تحديد ما إذا كان الخاطف قد أحيل إلى المحاسبة القضائية اللازمة. علماً أن القانون اللبناني، ينص على معاقبة من يخطف قاصراً بهدف الزواج، بالسجن بين سنة وثلاث سنوات.
ولم يكد اللبنانيون يرتاحون إلى خبر تحرير طفلة الأعوام الأربعة عشر، حتى أفاقوا في اليوم التالي على خبر أكثر مأساوية: زوج يعتدي بالضرب الشرس على زوجته حتى موتها. المكان هذه المرة في بيروت. المؤشر إذن أكثر خطورة. لكن الأفظع ما نقل لاحقاً من تفاصيل الجريمة. إذ قيل أن الاعتداء حصل أمام أهل الزوجة الضحية العاجزين عن مساعدتها. والأسوأ، أن محيطاً كاملاً مجاوراً لمنزل الضحية، لم يهتم لنداءات استغاثتها ولا لاستغاثة ذويها. لماذا؟؟ قد تكون الأسباب متعددة. لكن الأكيد أن أحدها هو تلك الثقافة المتخلفة حول "حرمة المنزل"، حيث الرجل سلطان يملك على البيت وموجوداته، ومنها حياة البشر الذين يقطنونه، خصوصاً النساء منهم.
وبين الخطف والعنف، سجل مؤشر التمييز الأخير ضد المرأة في لبنان. هذه المرة لا في العائلة، بل في الرياضة. ولا خرقاً للقوانين اللبنانية، بل خرقاً حتى للأنظمة الأولمبية. ففي 10 شباط الجاري تناقل بعض وسائل التواصل الاجتماعي صوراً للمتزلجة اللبنانية جاكي شمعون، أثناء مشاركتها في عمل تصويري عائد إلى شركة أجنبية. وتظهر شمعون في بعض اللقطات السريعة والعابرة عارية الصدر، أثناء تصوير رزنامة سياحية، قبل أكثر من ثلاثة أعوام. لكن توقيت الكشف عن تلك الصور جاء فيما المتزلجة تشارك في ألعاب سوتشي الأولمبية، ممثلة لبنان هناك. فجأة انطلقت أصوات رسمية ورياضية، تعتبر ما قامت به شمعون مخالفة تستوجب المحاسبة. حتى أن وزير الشباب والرياضة اللبناني اعتبر صور المتزلجة إساءة إلى صورة لبنان في الخارج!! قبل أن تأتي الصدمة التالية عبر بيان للجنة الأولمبية اللبنانية، التي طلبت بعد اجتماع استثنائي لها، اعتبار الأمر "إخباراً"، بمعنى الشكوى القضائية، مع الاستنكار لما حصل، والإعلان عن نية اللجنة المذكورة اتخاذ قرار بتوقيف الرياضية شمعون عن المشاركات الدولية بعد عودتها من سوتشي!
علماً أن قرار اللجنة الأولمبية اللبنانية جاء مخالفاً لأحكام الميثاق الأولمبي من جهة، كما مناقضاً لقرار اللجنة الأولمبية الدولية، التي نظرت في قضية المتزلجة شمعون، واعتبرت الأمر شأناً يتعلق بحياتها الشخصية، خصوصاً أنه لم يحصل أثناء الألعاب الأولمبية.
هكذا تبدو غيوم "طالبانية" ذكورية تتراكم أكثر فأكثر في الفضاء اللبناني. وأولى ضحاياها المرأة. أكانت طفلة أو بالغة، أكانت زوجة أم رياضية متألقة. في التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية سنة 2002، حول أوضاع التنمية في العالم العربي، يؤكد التقرير المذكور أن أحد مفاتيح تنمية هذه المنطقة يكمن في تحرير المرأة وإعطائها حقوقها كاملة. وبناء عليه، يمكن القول أن مسار التنمية في المنطقة اليوم يسير بشكل تراجعي مقلق!