عُرفت سوريا قبل الأزمة السياسيّة – العسكريّة التي بدأت في 15 آذار/مارس 2011 بتقدّمها في مجال التعليم المدرسي والجامعي، إذ بلغت مستويات الالتحاق بالمدارس الابتدائيّة 97%. وبحسب دراسة لمنظمة اليونيسف صدرت في كانون الأول/ديسمبر 2013، فقد انحدرت وتيرة التعليم بشكل حاد في السنوات الثلاث الماضية، إذ أجبِر نحو ثلاثة ملايين طفل على التوقّف عن التعليم بسبب الحرب التي دمّرت مدارسهم واضطرار عدد كبير من الأسر إلى مغادرة البلاد.
وذكرت الدراسة أن واحدة من بين كلّ خمس مدارس في سوريا أصبحت غير صالحة للاستخدام، إما لأنها تعرّضت للضرر أو التدمير أو أصبحت ملجأ للنازحين داخلياً، في حين أن ما بين 500 ألف و600 ألف طفل سوري لا يتابعون دراستهم في البلدان التي تستضيف اللاجئين السوريّين. وأشارت إلى أن المناطق الأكثر تضرراً لجهة التعليم هي تلك التي تشهد أشدّ المعارك، كالرقّة وإدلب وحلب ودير الزور وحماه ودرعا وريف دمشق، حيث انخفضت معدلات الحضور في المدارس في بعض هذه المناطق لتبلغ 6%.
وأشارت مصادر تربويّة مطلعة لـ"المونيتور" إلى أن حوادث الخطف والاستهداف والقتل التي طالت عدداً كبيراً من المعلّمين والمعلّمات وأساتذة الجامعات بلغت أكثر من 500 حالة حتى نهاية العام 2013، بالإضافة إلى العدد الكبير من القتلى بين التلاميذ والطلاب جرّاء القذائف والصواريخ والتفجيرات التي استهدفت المدارس ورياض الأطفال والجامعات.
كذلك تراجع مستوى التعليم في الجامعات السوريّة خصوصاً في المناطق التي شهدت معارك عنيفة كحلب وحمص وإدلب ودير الزور والرقّة، نتيجة سفر عدد كبير من أساتذة الجامعات إلى الخارج واقتصار التعليم في بعض هذه الجامعات على معيدين أو طلبة الماجستير.
وكان وزير التعليم العالي السابق محمد يحيى معلا قد أعلن في العام 2013 أن الخسائر والأضرار التي لحقت بالوزارة وكلياتها في مختلف المحافظات، تجاوزت قيمتها نصف مليار ليرة سوريّة (نحو خمسة ملايين دولار أميركي) في ما عدا الخسائر في عدد من الكليات التي لم تحصَ كما في دير الزور على سبيل المثال. وأشار إلى أن جامعتَي "دمشق" و"تشرين" استقبلتا 40 ألف طالب من مختلف المحافظات، نظراً للمشكلات التي شهدتها جامعاتهم في ظلّ الأزمة التي أثّرت على قطاع التعليم.
مسؤول في إحدى جامعات دمشق طلب عدم الكشف عن اسمه، قال لـ"المونيتور" إن قطاع التعليم العالي هو من أكثر القطاعات تأثراً بالأزمة الراهنة كونه يمسّ كلّ بيت في سوريا، إذا أخذنا بالاعتبار قطاع التربية التي تديرها وزارة أخرى. وأوضح أن الأضرار ماديّة ومعنويّة. فالماديّة تخصّ التدمير الذي طال البنى التحتيّة للجامعات والكليات والمعاهد والمختبرات، والمعنويّة تتمثل بالصعوبات أمام استمرار العمليّة التعليميّة وانقطاع الطلاب عن الدراسة لأسباب مختلفة، مثل الخوف من التهديدات المباشرة وغير المباشرة ومنهم من انقطع للالتحاق بالعمل العسكري ومنهم من نزح أو لجأ إلى مناطق أكثر أماناً.
وأشار المسؤول إلى تراجع مستوى العمليّة التعليميّة بسبب تدنّي نسبة الحضور والدوام والتفاعل، نتيجة مخاطر انتقال الطلاب من المنزل الى إلجامعة وزيادة تكلفة المواصلات ومستلزمات التعليم، بالإضافة إلى الخوف من عمليات القتل أو الخطف التي حدثت مراراً. ولفت إلى أن وزارة التعليم العالي قامت بإصدار قرارات تمكّن الطلاب من متابعة دروسهم والتقدّم للامتحانات في أي جامعة يريدونها إذا كان الاختصاص نفسه متاحاً فيها، في ظلّ صعوبة وأحياناً استحالة استمرار الدراسة في بعض الجامعات أو الكليات في المناطق التي تشهد معارك أو تلك التي دمّرت مبانيها. وأوضح أن السلطات السوريّة سمحت للطلاب بالتقدّم لأكثر من دورة امتحانيّة خلافاً للقوانين المعتادة وتسهيلاً لظروف الدراسة، الأمر الذي أثّر على طبيعة الأداء ونوعيّة التعليم.
وذكر المسؤول الجامعي أن من التسهيلات التي قدّمتها السلطات أيضاً، تمكين الطالب من الاستعاضة عن البحوث والاختبارات والتدريب العملي بسؤال نظري يجيب عنه في الامتحان، إلا أن لذلك تأثير سلبي على تخصّصات مثل الهندسة باختلاف مجالاتها لا سيّما هندسة البترول، إذ كيف يمكن دراستها من دون مخابر وحقول وتدريب عملي ميداني؟ والأمر ينطبق على تخصّصات كثيرة. لكنه اعتبر أن استمرار عمليّة التعليم والمواظبة يمثلان تحدياً كبيراً للمجتمع والدولة في سوريا، إذ إن ثمّة إصراراً على المتابعة بشكل يثير الدهشة. فعدد كبير من الطلاب يتابعون دراستهم حتى مع الظروف الصعبة والتهديدات القائمة.
وأوضح المسؤول نفسه أن الحكومة السوريّة مصرّة على إرسال الطلاب لمتابعة دراسات عليا في الماجستير والدكتوراه، إلى عدد من الدول الصديقة مثل الصين وروسيا والهند وإيران ودول أخرى في شرق أووربا وأميركا اللاتينيّة، على الرغم من ضغط النفقات في هذا المجال. ويأتي ذلك في محاولة منها لكسر الحصار الذي تقيمه دول أوروبا مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها على قطاع التعليم العالي السوري. وأشار إلى أن أرقام الطلاب المتقدّمين للمفاضلة العامة للقبول الجامعي ومفاضلات الدراسات العليا تشير إلى هذا الإصرار، وهو من علائم الحيويّة والقوة في مجتمع يئنّ تحت وطأة حرب استنزفت موارده الماديّة والمعنويّة.
وقد أقرّ المسؤول الجامعي أن ثمّة حركة نزوح كبيرة لعدد كبير من أساتذة الجامعات والتخصصات المهمّة، على شكل إعارة الى جامعات أخرى أو كإجازة طويلة الأمد بدعوى التهديدات الأمنيّة. وثمّة من انشقّ عن المهنة لصالح العمل السياسي والعسكري، كذلك ثمّة معلومات أو مؤشرات عن مشاركة طلاب ومدرّسين في العمل العسكري.
وذكرت مصادر في رئاسة "جامعة دمشق" أن نحو 10% من أساتذة الجامعة غادروا البلاد مفضّلين العروض التي حصلوا عليها من جامعات عربيّة.
يشار إلى أن رواتب الأساتذة الجامعيّين في سوريا تتراوح ما بين 25 ألف و53 ألف ليرة سوريّة (ما بين 167 و340 دولاراً).
الدكتورة رنا محمود أستاذة في جامعة سوريّة خاصة. قالت لـ"المونيتور" إن الجامعة التي تدرّس فيها انتقلت من مقرّها الأساسي في ريف دمشق إلى داخل العاصمة دمشق، وذلك بسبب احتدام المعارك بعد أن تعرّضت حافلات الجامعة لإطلاق نار وقذائف. أضافت "بما أن الجامعة قطاع خاص، فقد رصدت الإدارة مبالغ كبيرة لاستئجار أماكن في وسط العاصمة كالفنادق وغيرها، وتمّ تجهيز القاعات وتأمين حواسيب وأجهزة عرض ومخابر. لكن المقرّ الجديد لا يوازي قطعاً المقرّ الرئيسي في اتساعه وجودته".
وأشارت الأستاذة إلى هجرة بعض الأساتذة الجامعيّين إلى الخارج واضطرار الجامعة إلى الاعتماد على بعض حملة الماجستير. أضافت أنه نظراً لضيق الأمكنة أصبح عدد الطلاب في الصف الواحد ينوف عن 65 طالباً، ما يؤثّر سلباً على العمليّة الأكاديميّة. لكن الإقبال على التسجيل في الجامعة لم يتراجع إلا في السنة الأولى من الأزمة، وسرعان ما ازداد إقبال الطلاب باطراد. وأوضحت أن مجرّد استمرار الجامعة على الرغم من التفجيرات العشوائيّة وقذائف الهاون، يعدّ جهاداً، معترفة بأن الأمور "لن تكون بالأداء والجودة نفسهما. لكن ذلك أفضل مئة مرّة من إغلاق المؤسّسة". ولفتت إلى أن "المراجع لم تعد متاحة ومكتبتنا الزاخرة بالكتب القيّمة بقيت هناك في المقرّ الرئيسي. وثمّة مشكلة في ارتفاع أسعار الكتب الأجنبيّة، إذ أصبح سعر المرجع نحو 12 ألف ليرة سوريّة (نحو 80 دولاراً). لكننا نعتمد حالياً على مكتبة إلكترونيّة مهمة جداً تحوي مراجع حديثة جداً، في أبحاثنا. وهي ميسّرة للطلاب تمكّنهم من إعداد مشاريعهم". وشدّدت على تراجع القيمة الشرائيّة لرواتب الأساتذة بسبب ارتفاع صرف سعر الدولار، مشيرة إلى أن الزيادة الحكوميّة للرواتب في العام الماضي لم تطل الجامعات الخاصة.
سوزان طالبة في كليّة الإعلام في دمشق. قالت لـ"المونيتور" إن قسماً كبيراً من الطلاب لا يستطيع تأمين حضور في الجامعة لعدم قدرته على الوصول إليها بسبب وجود المسلحين في أماكن سكنهم، مشيرة إلى أن الدوام في جامعات العاصمة مقبول مقارنة بجامعات المناطق متل حمص حيث لا دوام ولا امتحانات. ولفتت إلى أن ثمّة تراجعاً في مستوى التعليم مقارنة مع ما كان عليه قبل الأحداث، نافية وجود تساهل من قبل إدارة الجامعة في ما يتعلّق بنتائج الامتحانات وإصرارها على الصرامة من دون تقدير الظروف الأمنيّة والانقطاع الكبير في التيار الكهربائي.
من جهته قال سليمان وهو طالب في كلية الهندسة في دمشق لـ"المونيتور"، إن ثمّة تراجعاً على المستوى التعليمي لكنه ليس بالتراجع الكبير، وأسبابه تعود إلى الطلاب النازحين من محافظات أخرى مثل حمص ودرعا وحلب وعدم قدرة الجامعات على استيعاب هذه الأعداد الكبيرة. وأشار إلى أن مشاكل الطلاب كانت بمعظمها متعلقة بالطرقات والتأخر عن مواعيد المحاضرات بسبب ازدحام السير والوقوف على الحواجز أو إقامة بعضهم في المناطق الساخنة. أضاف "وهذا الشيء انعكس تدريجياً على تحصيلهم العلمي، إذ قرّر بعضهم التوقّف عن الدراسة لعدم قدرتهم على الوصول إلى الجامعة أو المعهد".