في الوقت الذي كان فيه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله يطلّ في مقابلة تلفزيونيّة مطوّلة مساء الثالث من كانون الأول/ديسمبر الجاري، كانت وحدة أمنيّة خاصة تتحضّر لتنفيذ عمليّة اغتيال أحد أبرز قادة المقاومة الإسلاميّة في حزب الله حسان اللقيس. لقد أوحى المشهد أن المنفّذين أرادوا توجيه رسالة إحباط لكلّ ما قاله نصر الله في خلال المقابلة، بخاصة لجهة قوله إن عناصره يقاتلون في سوريا وعلى حدودها مع لبنان من أجل منع الإرهابيّين التكفيريّين في سوريا من الوصول إلى البلد .
وثمّة شكوك في أن يكون المنفّذون قد أرادوا فعلاً توقيت عمليّتهم لتأتي متزامنة مع إطلالة نصر الله التلفزيونيّة. لكن مشهد تزامن إطلالته مع اغتيال اللقيس يغري برسم مقاربة بين الحدثَين.
فقد ركّز نصر الله في كلامه على أن حزبه يخوض حرباً استباقيّة في سوريا، لمنع تحوّل لبنان إلى عراق آخر. ولفت كيف أن انهيار الحدود ما بين سوريا والعراق أدّى إلى تسرّب التكفيريّين من الأولى إلى الثانية وبالعكس، ما أدّى إلى تعاظم ظاهرة الانتحاريّين والسيارات المفخّخة في العراق على نحو مخيف. أضاف أن منع مقاتلي حزب الله التكفيريّين من السيطرة على مناطق الحدود مع لبنان في داخل سوريا، حمى لبنان من انتقال ظاهرة العرقنة إليه.
ويمكن تفسير عملية اغتيال اللقيس أن منفّذي العملية أرادوا القول إن كلّ كلام نصر الله عن أنه نفّذ عمليّة استباقيّة لمنع يد المجموعة الإسلاميّة المتشدّدة من أن تطال لبنان، هو غير صحيح ويفتقد إلى الواقعيّة. والدليل أنه لو كان حزب الله نجح في حماية لبنان من خلال تدخله في سوريا، لكان أولى به أن يحمي أحد أبرز أعضائه من عمليّة أمنيّة طالته وهو موجود في قلب معقل حزب الله في الضاحية الجنوبيّة لبيروت .
وجوهر الخلاف بحسب ما لخّصته أحداث ليل الثلاثاء–الأربعاء (3-4 كانون الأول/ديسمبر 2013) من خلال وقائع مشهدَين اثنَين تقاربا زمنياً هو أن نصر الله يقول: أنا في سوريا في حرب دفاعيّة، بينما مناهضي خطوته يردّون أنه في حرب غير أخلاقيّة وهدفها حماية النظام السوري.
وليس متوقعاً أن ينتهي هذا السجال بين الطرفَين طالما أن الأزمة السوريّة مفتوحة على صراع عسكري دام. وعليه، يتوقّع على نطاق واسع أن يحدث المزيد من العنف الإسلامي المتشدّد ضدّ حزب الله في لبنان، وفي المقابل سيزيد تدخّل الحزب العسكري في سوريا.
لكن من ناحية ثانية، ثمّة دلالة هامة أيضاً. فكلام نصر الله في خلال إطلالته التلفزيونيّة تضمّن اعترافاً بأن تدخّل الحزب في سوريا كان متدحرجاً، بمعنى أنه شابه شيء من "التورّط" لجهة توسّعه جغرافياً وعددياً. ويستبطن هذا الكلام اعترافاً منه بأن حزبه موجود في "وحول" أزمة تتّسم بمعنى التوريط. لكن سياق كلام نصر الله العام يشي بأنه وعلى الرغم من ذلك، إلا أنه مقتنع بأن قراره المشاركة في القتال في سوريا كان صائباً، وذلك من ناحيتَين أساسيّتين على أقلّ تقدير. من الناحية الأولى، لكونها وفّرت له ملاقاة "العدو التكفيري" في المكان والزمان الذي يختاره الحزب. ومن الناحية الثانية -وهو أمر يضمره ولا يظهره-، لحماية نظام [الرئيس السوري] بشار الأسد من السقوط لأنه على يقين بأن بقاء هذا النظام في سوريا يعني بقاء الرئة الاستراتيجيّة التي يتنفّس منها الحزب وسقوطه يعني ببساطة أن الحزب بات محاصراً جبو-سياسياً.
ويلاحَظ في هذا المجال أنه يغيب عن التحليلات المتّصلة بدراسة موقف نصر الله من الأزمة السوريّة، أمر هام وهو أن بشار الأسد نسج علاقة مع نصر الله تمتاز بأن درجة الثقة فيها تبلغ أضعاف ما كان قائماً ما بين نصر الله والرئيس الأب حافظ الأسد. من الواضح أن هذا الأخير كان صاحب حواس سياسيّة استراتيجيّة باردة، لا يتعاطى بعملة الانفعالات العاطفيّة حتى مع الأشياء القريبة من قلبه ووجدانه. ومنشأ ذلك أنه كان يعتبر سوريا دولة مركز وأن قرارها هو قرار العاصمة التي تأخذ في حساباتها مصالحها وتوظّف كلّ الأوراق الأخرى التي تدور في فلكها في خدمة إعلاء شأن العاصمة السياسيّة على المستويَين الإقليمي والدولي. صحيح أن حافظ الأسد قدّم دعماً هاماً لمقاومة حزب الله، لكن صحيح أيضا أن نظرته إلى الحزب ظلت ضمن قياسات العلاقة ما بين الدولة المركز والحليف التابع لها. هذه النظرة ليست موجودة في علاقة بشار الأسد مع حزب الله وتحديداً مع نصر الله. وثمّة أكثر من تعبير يدعم هذا الأمر، أهمها أن بشار الأسد كسر تقليد عدم الاجتماع بنصر الله على نحو معلن أو غير معلن. وهو تقليد كان الأسد الأب قد حافظ عليه بقداسة، لأنه كان يعتبر أن اللقاء بنصر الله هو نوع من تقديم أوراق مجانيّة للغرب تؤكّد علاقة سوريا العضويّة بالمقاومة، فيما كان هو يريد الإظهار بأن سوريا تدعم سياسياً المقاومة من موقعها الهام في الصراع مع إسرائيل حرباً وسلماً. في خلال العام 2006 قدّم بشار الأسد لحزب الله سلاحاً صاروخياً ضدّ المدرّعات كاسر للتوازن. ومن المستبعد أن الأسد الأب كان سيقدم على هذه الخطوة في ما لو كان لا يزال هو رئيس سوريا في العام 2006، وذلك نظراً لحرصه على إبقاء الخطوط الحمر في صراعه مع الغرب محترمة .
خلاصة القول أن نصر الله وجد في الرئيس السوري الابن هبة من الله للمقاومة، فيما أن الأخير الحديث في السياسة والسنّ وجد في انتصارات نصر الله على إسرائيل في العامَين 2000 و2006 نموذجاً له يرضي عنفوانه الشاب.
واليوم نتج عن الأزمة السوريّة وموقف نصر الله من دعم النظام بالدم، عامل ثقة أكبر وأوثق بين الطرفَين، وباتا أكثر التصاقاً ببعضهما البعض من الناحية الإنسانيّة والسياسيّة. فقد قامت بينهما الآن علاقة تتّسم بمعنى ثمين، مفاده أن كل واحد منهما اختبر وفاء الآخر له في أصعب الأوقات. فنصر الله اختبر الأسد حينما خرق الأخير الخطوط الحمر الدوليّة ومدّ حزب الله بسلاح كاسر للتوازن في حرب العام 2006، وفي المقابل خرج نصر الله ناجحاً من اختار وفائه للأسد حين قرّر القتال إلى جانبه في لحظة يواجه فيها ما يسميه النظام السوري بحرب كونيّة عليه.