تحقّقت أسوا التوقّعات التي كانت قد سادت في الأسابيع الماضية الوسطَين الأمني والسياسي اللبنانيَّين، بخصوص إمكانيّة ذهاب لبنان إلى نوع من "العرقنة الفعليّة". وكانت المؤشّرات الدالة على هذا الاتجاه قد تراكمت لدى السلطات اللبنانيّة في الأيام الأخيرة على شكل معلومات أمنيّة متتالية، أخطرها أن القاعدة تحضّر لشنّ هجمات إرهابيّة على مسيرات عاشوراء التي يحييها الشيعة في لبنان. وذلك على نحو ينقل الاقتتال الشيعي-السني الجاري بعنف منذ أعوام في العراق، إلى لبنان.
لكن أخطر ما في اعتداء التفجيرَين اللذَين حدثا اليوم (الثلاثاء 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2013) في بيروت في منطقة الضاحية الجنوبيّة هو أولاً استهدافه السفارة الإيرانيّة في لبنان، ما يعني بالشكل أنه تعبير عن احتقان العلاقات السياسيّة القائم حالياً ما بين طهران والرياض. والمصدر الثاني لخطورته أنه تمّ تنفيذه بأسلوب يذكّر بنموذج الحرب الإرهابيّة الدائرة في العراق ما بين السنّة والشيعة .
وفي التفاصيل الموحية التي انطوى عليها الهجومَين الانتحاريَّين، فإن انتحارياً يقود دراجة ناريّة قام بداية بتفجير نفسه أمام السفارة، وبعد قليل اتّجهت سيارة مفخّخة لتنفيذ الهجوم الثاني. وبحسب التوقّعات المستقاة من أسلوب التفجيرات التي تتّبعها "القاعدة" في العراق، فإن المخطّطين للهجوم المركّب كانوا يتوقّعون أن يحدث التفجير الأول كوّة في جدار السفارة تدخل منه لاحقاً السيارة المفخّخة إلى داخل المبنى لتنفجر هناك. وما حال دون تحويل السفارة الإيرانيّة في بيروت إلى ركام، هو أن الحواجز الإسمنتيّة الكثيرة الموضوعة حولها لحمايتها منعت السيارة من دخول باحة مبناها. لكن الخطأ الذي ارتكبه مواطنون مجاورون للسفارة هو أنهم هرعوا بعد التفجير الأول لتفحّص موقع الحادث، ما جعل سائق السيارة الانتحاري يجد فيهم هدفا دسماً لتفجير نفسه بينهم. وبذلك تعويض عن عدم نجاح زميله الانتحاري الأول في إحداث فجوة في جدار السفارة تمكّنه من بلوغ باحتها الداخليّة.
ويُعتبر الاعتداء الذي استهدف السفارة الإيرانيّة في بيروت، الأول من نوعه الذي يستهدف المصالح الإيرانيّة بشكل مباشر في لبنان. أما توقيت هذا الهجوم فيوحي بأن الحرب القائمة الآن في المنطقة بين محور الحركات السلفيّة الإسلاميّة السنيّة وبين إيران في كلّ من سوريا والعراق، اتّسع ليطال لبنان أيضاً .
وعلى الرغم من أن السفير الإيراني في بيروت غضنفر ركن أبادي سارع بعد وقت قصير من الحادث ليتّهم إسرائيل بوقوفها وراءه وقد ردّدت الخارجيّة الإيرانيّة ذلك بعده، إلا أن الشكوك في لبنان تتركّز على اعتبار ما جرى جزءاً من ردود الفعل السلفيّة على هجوم القلمون الذي يشنّه النظام السوري هذه الأيام بدعم من حزب الله والحرس الثوري الإيراني بحسب مزاعم المعارضة وأيضاً بحسب ما يقوله إعلام بعض الدول المساندة لها كالسعوديّة مثلاً. وبالنسبة إلى العديد من المراقبين في لبنان، فإن حدوث هذا الانفجار صباح اليوم (19 تشرين الثاني/نوفمبر) في بيروت لم يكن مفاجئاً، نظراً لأن هؤلاء كانوا قد توّقعوا أن تتزامن معركة القلمون مع حصول تفجيرات سلفيّة في لبنان ضدّ حزب الله الذي يتّهمه السلفيّون الجهاديّون السنّة بأن عناصره تساند بشكل فعال الجيش السوري هناك.ومن وجهة نظر مصدر أمني تحفّظ عن ذكر اسمه، فإن ما يميّز خطورة هذا الاعتداء عن التفجيرات السابقة هو أن منفّذَيه انتحاريَّين. وهذا يؤشّر إلى أن القاعدة بغضّ النظر عن وجود جهات خارجيّة تحرّكها، أصبح لديها خلايا عقائديّة جهاديّة في لبنان وليس فقط خلايا أمنيّة وعسكريّة. ويلفت المصدر عينه إلى أن استخدام الانتحاريّين في الأعمال الإرهابيّة يُعتبَر أوضح الدلائل على أن القاعدة أو تنظيمات إسلاميّة متشدّدة تحاكيها عقائدياً، هي التي قامت بتنفيذها. يضيف أنه حينما يحدث تفجير بواسطة آلة تحكّم عن بعد كما حدث في خلال الشهرَين الماضيَين في الضاحية الجنوبيّة وطرابلس، فإن ذلك يجعل المراجع الأمنيّة تشكّ باحتمال أن يكون وراءه أجهزة استخبارات رسميّة. لكن التفجيرات الانتحاريّة تترك وراءها توقيعاً واضحاً يشير إلى أن "القاعدة" هي التي نفّذتها عبر عناصر عقائديّين تابعين لها.
ويسود لبنان بعد تفجير السفارة الإيرانيّة صباح اليوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر، قلق من أن البلد دخل عنق زجاجة "العرقنة". والسؤال الملحّ حالياً هو أين سيكون التفجير الثاني؟ وبمعنى آخر هل بدأت لعبة تبادل اللكمات بالتفجيرات بين الشيعة والسنّة في لبنان على نحو ما يحدث منذ سنوات في العراق؟ وهو أمر خلّف وراءه عشرات آلاف القتلى...