لم يجد أسعد جبوري (12 عاماً) طريقة لكتابة واجباته المدرسيّة سوى الجلوس أسفل عمود إنارة في شارع السوق الرئيسي في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة.. فالتيار الكهربائي منقطع في حيّه السكني الذي يبعد عن الشارع نحو 200 متر.
وأسعد وهو تلميذ في الفصل الأول إعدادي، جلس على الرصيف الذي تمرّ المركبات بسرعة إلى جانبه وانهمك بكتابة واجباته المدرسيّة على عجالة، محاولاً كسب الوقت لتجنّب الوصول إلى منزله في ساعة متأخّرة.
وعندما أنهى واجباته المدرسيّة، تنفس أسعد الصعداء ورفع رأسه وهو لا يزال جالساً على الأرض، وقال لـ"المونيتور" "ها قد انتهيت. يمكنني الحديث معكم الآن". والتقط الصبي أنفاسه قبل أن يضيف "آتي إلى هنا يوماً بعد يوم لكتابة واجباتي المدرسيّة. مرّة أختار عمود إنارة، ومرّة أخرى أجلس أمام أحد المحال التجاريّة المضاءة".
وأسعد الذي بدا واضحاً أنه من عائلة فقيرة للغاية، يتلقّى تعليمه في إحدى المدارس الحكوميّة في دوام يبدأ عند الساعة 12 ظهراً وحتى الخامسة مساءً مع بدء حلول الظلام. بالتالي لا يملك الكثير من الوقت للقيام بواجباته المدرسيّة مع بدء العمل بالتوقيت الشتوي في الأراضي الفلسطينيّة، الأمر الذي يجعل ساعات النهار قصيرة.
وأزمة التيار الكهربائي في قطاع غزّة اندلعت في 28 حزيران/يونيو 2006، وهو التاريخ الذي أقدمت فيه طائرات عسكريّة إسرائيليّة على قصف محطة توليد الطاقة الكهربائيّة في قطاع غزّة رداً على اختطاف مجموعات فلسطينيّة مسلحة الجندي جلعاد شاليط، ما أدى إلى توقّفها عن العمل بشكل كامل.
ومع تفاقم هذه الأزمة، اضطر السكان إلى الاعتماد على بدائل مختلفة، أبرزها والأكثر انتشاراً هي مولدات الطاقة الكهربائيّة المنزليّة التي تعتمد على البنزين الذي بات شحيحاً أيضاً بسبب إغلاق الأنفاق الأرضيّة التي كانت تمرّر آلاف اللترات من الوقود المصري قبل أن تهدمها السلطات المصريّة مؤخراً. إلى ذلك، ما زال معظم السكان يعتمدون على الشمع في توفير مصدر إنارة لهم نظراً لصعوبة الحالة الاقتصاديّة.
بالنسبة إلى والد أسعد جبوري، هو لا يملك مقوّمات ماليّة لتوفير بدائل عن التيار الكهربائي، إذ هو عامل بأجر يومي لا يتجاوز 20 شيكلاً (أقل من ستة دولارات أميركيّة)، وبالكاد يستطيع توفير لقمة عيش الأسرة التي تتكوّن من خمسة أفراد بحسب ما يقول أسعد.
صحيح أن شراء الشمع لن يكلّف والد أسعد الكثير من المال حتى يوفّر لابنه مصدر إنارة يساعده على كتابة واجباته المدرسيّة، لكن الوالد يرفض ذلك بالمطلق. أما سبب ذلك فحادثة الحريق التي وقعت في منزل عائلة ضهير وراح ضحيّتها جميع أفراد العائلة.
وكانت مدينة غزّة قد أفاقت فجر 31 كانون الثاني/يناير الماضي على حادثة مفجعة. فقد التهم حريق تسبّبت به شمعة، منزل عائلة ضهير في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزّة، ما أدى إلى مصرع جميع أفرادها وهم أربعة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين شهرَين وسبعة أعوام بالإضافة إلى الوالدَين.
أسعد جبوري ليس الوحيد الذي يعاني من أزمة انقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمرّ، بل هو مثال يعكس وجهاً من أوجه تأثير أزمة الكهرباء ونقص الوقود في قطاع غزّة اللذَين طالا جميع مناحي الحياة.
وكانت سلطة الطاقة والموارد الطبيعيّة في غزّة قد أطلقت عبر موقعها الإلكتروني تحذيراً جدياً قالت فيه إنها "معرّضة للتوقف كلياً عن العمل جرّاء النقص الحاد في كميات الوقود اللازم لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في قطاع غزّة".
وحذّرت سلطة الطاقة على موقعها من أن "توقّف المحطّة يعني كارثة إنسانيّة كبيرة في قطاع غزّة تشمل جميع المناحي الخدماتيّة والإنسانيّة في ظلّ عجز الكهرباء الذي تعاني منه أصلاً في غزّة".
وأوضح مدير معلومات الطاقة في سلطة الطاقة التابعة لحكومة "حماس" في غزّة أحمد أبو العمرين لـ"المونيتور"، أن القطاع يتغذّى بالكهرباء عن طريق عشرة خطوط إسرائيليّة بقدرة 120 ميغاواطاً وخطَين آخرَين مصدرهما جمهوريّة مصر العربيّة بقدرة 22 ميغاواطاً. ويأتي ذلك بالإضافة إلى ما تنتجه محطّة توليد الكهرباء في غزّة بقدرة 65 ميغاواطاً، مع الإشارة إلى أن ذلك مرتبط بما يتوفّر من سولار لتشغيل المحطة.
لكن أبو العمرين شدّد على أن "هذه المصادر مجتمعة لا تلبّي احتياجاتنا من التيار الكهربائي، ويتفاقم هذا العجز عندما لا تعمل محطة التوليد بكامل طاقتها"، لافتاً النظر إلى أن نسبة العجز في الكهرباء وصلت إلى 50%.
وأوضح أن محطة توليد التيار الكهربائي بحاجة إلى نحو 650 ألف لتر يومياً من السولار الصناعي لتعمل بكامل طاقتها، مشيراً إلى أنه وفي أفضل الأحوال لا تستطيع المحطة توفير ثلث هذه الكميّة بسبب إغلاق المعابر وعدم توريد الوقود الإسرائيلي بشكل كاف.
وقال أبو العمرين إنه "في خلال فصلَي الشتاء والصيف، يزداد احتياج السكان إلى الكهرباء ليبلغ 320 ميغاواطاً، فيما تنخفض هذه الاحتياجات في فصلَي الربيع والخريف إلى 280 ميغاواطاً". وشدّد على أن وصول الوقود القطري لتشغيل محطة التوليد يمثل حاجة ماسّة للفلسطينيّين الذين يعانون من الحصار والتضييق في شتى مناحي الحياة.
وكان رئيس حكومة "حماس" في غزّة إسماعيل هنيّة قد كشف في نيسان/أبريل 2012، عن تبرّع قطر بسفينة محمّلة بالوقود بقيمة 35 مليون دولار مخصّصة لمحطّة توليد الكهرباء في قطاع غزّة.
لكن غزّة لم تهنأ بهذه المنحة التي كان من المقرّر أن تخفّف الأزمة بشكل كبير، بسبب العراقيل التي كانت تعوّق توصيلها إلى قطاع غزّة سواء من قبل السلطات المصريّة أو سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وأوضح مصدر رفيع المستوى في حكومة "حماس" في غزّة فضّل عدم الكشف عن هويّته لـ"المونيتور"، أنه لا توجد حتى اللحظة أي بوادر من قبل أي طرف لحلّ أزمة التيار الكهربائي وتوريد السولار الصناعي لتشغيل محطة توليد الكهرباء. وأشار إلى أن الأزمة تُدار في الوقت الحالي من خلال الاعتماد على كميّة السولار المخزّنة مسبقاً والتي شارفت على الانتهاء.
وحمّل المصدر السلطات المصريّة وسلطات الاحتلال مسؤوليّة أزمة عدم توفّر هذه الكميّة من السولار، مشيراً إلى أن حكومته تجري اتصالات مع الجانب القطري للضغط على السلطات المصريّة حتى تسمح بإدخال الوقود القطري إلى غزّة.
وحتى ينقشع الظلام عن قطاع غزّة، سيستمر أسعد الجبوري في البحث بشكل متواصل عن مصدر إنارة لكتابة واجباته المدرسيّة، خشية من عقاب مدرّسه في حال فشل في العثور على بصيص ضوء.