بعد مضي أكثر من عقد على تحرّر العراق من حقبة الدكتاتوريّة، يستطيع المراقب تقييم الحياة المدنيّة في هذا البلد. وتشكّل منظّمات المجتمع المدني جزءاً مهماً من الحياة الجديدة في العراق. وقد وصل عددها إلى أكثر من سبعة آلاف منظّمة بحسب بعض الإحصائيات. ولم تلبّ سوى 1770 منظّمة شروط التسجيل الرسمي وفقاً لقانون المنظّمات غير الحكوميّة الذي أقرّ في العام 2010. ومن هذه الشروط، توفّر مقرّات دائمة وسجلات واضحة للإيرادات والمصروفات وهيئات إداريّة معرّفة بالأسماء، ما يساهم -ولو نسبياً- في الكشف عن آلاف المنظّمات الوهميّة التي لا تؤدّي دوراً حقيقياً في هذا البلد المحطّم.
يمكن تقسيم منظّمات المجتمع المدني من حيث جهة التمويل وحجم المصروفات إلى أربع مجموعات رئيسيّة. الأولى، هي تلك المنظّمات ذات الطابع الخيري التي تتلقّى تمويلها من المؤسّسات الدينيّة أو الأحزاب السياسيّة بشكل أساس، بحيث تستفيد هذه الجهات السياسيّة من الطابع الدعائي التي توفّرها منظّمات المجتمع المدني التابعة لها أو المتعاونة معها لا سيّما في خلال الانتخابات. وكمثال على ذلك وزّع "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" بطانيات على الفقراء في المناطق الشيعيّة الفقيرة قبيل الانتخابات النيابيّة السابقة في العام 2010 من خلال "مؤسّسة شهيد المحراب"، وهي المنظّمة الخيريّة التابعة لهذا الحزب. وعلى الرغم من تحوّل هذه القضيّة إلى فضيحة شغلت الرأي العام، إلا أن مثل هذه الأساليب باتت تشكّل جزءاً من المشهد السياسي في العراق.
المجموعة الثانية، هي المنظّمات غير الحكوميّة اليساريّة التي تتميّز بطابعها الاحتجاجي والمناهض للحكومة. وقد قامت هذه المنظّمات بتنظيم عشرات التظاهرات، أغلبها بعد أحداث الربيع العربي في العام 2010. تميّزت بعض هذه التظاهرات بضبابيّة الموضوع والشعارات مثل تظاهرات 25 شباط/فبراير 2011. وقد أشّرت بعضها إلى مدى انسلاخ هذه المنظّمات وبُعدها عن هموم الشارع العراقي، وعلى سبيل المثال تلك التي خرجت لتأييد الانقلاب العسكري ضدّ الرئيس المصري محمد مرسي في 30 حزيران/يونيو الماضي. إلى ذلك، فإن بعضها تظاهرات مطلبيّة شديدة التنظيم والوضوح والتأثير مثل تلك التي خرجت في 31 آب/أغسطس الماضي وطالبت بإلغاء امتيازات النوّاب ورواتبهم التقاعديّة الفاحشة. ولا تبحث مثل هذه المنظّمات الاحتجاجيّة على تمويل كبير ما دام نشاطها يقتصر على الحضور في الشارع أو على صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
المجموعة الثالثة، هي المنظّمات التي يمكن تسميتها بمنظّمات "الصالونات" المولّعة بحضور الملتقيات النخبويّة وبالمشاركة في المؤتمرات والندوات ولقاءات وسائل الإعلام، من دون أن يعكس ذلك بالضرورة مدى تجذّرها في المجتمع العراقي أو تمثيلها لشرائح حقيقيّة من العراقيّين. ويبدو أن مثل هذه المنظّمات المتمرّسة في التعامل مع المنظّمات الدوليّة وسفارات الدول الغربيّة، كانت الحصيلة الأبرز للمساعدات الأميركيّة التي حظيت بها منظّمات المجتمع المدني في خلال فترة تواجدها في العراق. وتجدر الإشارة إلى أن تلك المساعدات بلغت نحو 850 مليون دولار أميركي بحسب ما أفادت مستشارة الديمقراطيّة الأقدم في سفارة الولايات المتحدة في بغداد لوسي شانغ، ما يجعل من فاعليّة هذه الأموال محلّ تشكيك. أما المجموعة الأخيرة من منظمات المجتمع المدني، فهي تلك التي تقوم بالمستحيل وسط أجواء العنف والتخوين لتحقيق أهدافها المعلنة. وتسعى مثل هذه المنظّمات إلى تمويل نفسها بنفسها من خلال التبرّعات أو اشتراكات الأعضاء، ما يعني أنها منظّمات صغيرة الحجم في غالب الأحيان. وتُعتبَر مؤسّسة مسارات (MCMD) واحدة من تلك المنظّمات الطموحة التي تسعى إلى حماية أقليات مثل المسيحيّين والبهائيّين واليزيديّين وغيرهم، من خلال إبراز دورها في الذاكرة العراقيّة والتوعيّة على مخاطر فقدان البلاد تنوّعها الديني والقومي.
ويبقى السؤال عن الجدوى من استمرار الطريقة العشوائيّة للمساعدات المقدّمة من قبل الجهات المانحة ودور ذلك في خلق بيئة مؤاتية للفساد، في حين أن النشاط المدني الحقيقي في العراق غائب عن أنظار المانحين.