يبدو أن المواجهات العنيفة التي ستنتج عن محاولة الدولة فضّ الاعتصامات في ساحتَيّ "رابعة العدويّة" و"النهضة" قد أصبحت حتميّة، ولكن هل هذه المواجهة ستنهي الصراع مع الإخوان المسلمين أم ستنقله إلى مستويات أخرى، وربما بدرجات أعلى من العنف؟ وما هي البدائل العمليّة لفضّ اعتصامات الساحتين؟
"هل من الحتمي فضّ هذه الاعتصامات؟" لم يعد هذا السؤال يشغل الرأي العام، فقد استبدل بآخر: "متى سيتمّ فضّ هذه الاعتصامات؟".
متى سيتمّ فضّ هذه الاعتصامات؟
أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام "بصيرة" أن 20% من المصريّين متعاطفين مع التظاهرات المؤيّدة للرئيس المصري المعزول محمد مرسي في مقابل 71% غير متعاطفين معها، في حين ذكر 9% من المستطلعين أنهم لا يستطيعون تحديد موقفهم. وقد أظهر الصعيد أكبر نسبة تعاطف بلغت 27% في مقابل 15% في الوجه البحري و16% في المحافظات الحضريّة. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائيّة، أن غالبيّة المصريّين يؤيّدون فضّ الاعتصامات فوراً، وذلك بنسبة 63%. لكن هؤلاء بغالبيّتهم كانوا مع فضّ الاعتصامات بصورة غير عنيفة، وقد اعتبر 30% من المستطلعين أن المعتصمين إرهابيّين بينما رأى 27% منهم أن بعضهم سلميّون وبعضهم إرهابيّون، ما يعني أن 57% يرون أن في أماكن الاعتصام إرهابيّين. إذاً عدد قليل من المصريّين يعتقدون أن هذه الاعتصامات سلميّة، والأغلبيّة الساحقة لا تتعاطف معها. أما غالبيّة من نزلوا إلى الشارع في يوم 26 تموز/يوليو المنصرم استجابة لنداء القائد الأعلى للقوات المسلّحة عبد الفتاح السيسي، فغرضهم كان تفويض الجيش والشرطة فضّ هذين الاعتصامَين باعتبار كلّ واحد منهما بؤرة إجراميّة مسلّحة، وكذلك التصدّي لموجة العنف الإخواني في مختلف المحافظات والسيطرة على المسيرات العدوانيّة التي تقوم بقطع الطرقات والجسور والاحتكاك بسكان المناطق المختلفة، علاوة على القضاء على الإرهاب في سيناء وبسط سيطرة الدولة المصريّة على شبه الجزيرة وبقيّة أرجاء الوطن.
وينقل الإعلام باستمرار مشاهد الدشم والتحصينات الحربيّة المحيطة بالاعتصامَين، بالإضافة إلى ما تتضمّنه تلك الدشم من تجويفات للسماح باستخدام الأسلحة ضد أي من المهاجمين. كذلك تُبثّ أخبار عن ضحايا سلخانات التعذيب الإخواني، وأفلام توضح استخدام الإخوان الأسلحة الناريّة والخرطوش وزجاجات المولوتوف الحارقة في هجمات متعدّدة على ميدان التحرير ومدينة الإنتاج الإعلامي وغيرهما من الأماكن، بالإضافة إلى أخبار الأطفال الذين يتمّ استدراجهم إلى أماكن الاعتصام بمغريات مثل وعود بملابس جديدة للعيد وحلوى ومبالغ ماليّة. وقد يكون ذلك لاستخدامهم كدروع بشريّة. إلى ذلك تأتي أخبار الاعتداء على منازل المسيحيّين وممتلكاتهم وكنائسهم في الصعيد وبور سعيد، لتوحي بأن الإخوان وحلفاءهم يسعون إلى زجّ البلاد في أتون الفتنة الطائفيّة.
وخرجت تقارير مروّعة تتحدّث عن قيام الإخوان بتعذيب وقتل معارضيهم في داخل "سلخانات" اعتصامَي رابعة العدويّة والنهضة، في حين أصدرت منظمة العفو الدوليّة تقريراً خطيراً يقرّ بوجود أدلة تشير إلى تورّط أنصار مرسي في تعذيب معارضيهم وسقوط 11 قتيلاً نتيجة للتعذيب. من جهته، أصدر مركز ابن خلدون تقريراً أخطر يشير إلى 82 قتيلاً و44 حالة تعذيب و670 حالة احتجاز قسري على أيدي ميليشيات الإخوان.
وسواء كانت هذه الصور والأخبار والتقارير دقيقة أم مبالغاً فيها، فقد هيأت الرأي العام لوصم الإخوان بالإرهاب وربطهم بالهجمات على الجيش والشرطة في سيناء، بحيث أصبح المصريّون في حالة ترقّب: متى سيتمّ فضّ هذه الاعتصامات؟
مؤشّرات عكسيّة وردّ فعل غاضب
وبعكس هذا التوجّه، نقلت وكالة "رويترز" للأنباء "تسريبات" عن مصالحة وشيكة مع الإخوان بالإضافة إلى منحهم 3 حقائب وزاريّة وفكّ تجميد أموال الجماعة. أما صحيفة "إندبندنت" البريطانيّة فأعلنت أن مرسي سيقوم بتسجيل خطاب متلفز يعلن فيه استقالته مقابل الخروج الآمن إلى دولة أوروبيّة. وتتابعت الزيارات والوساطات الأميركيّة والأوروبيّة، كذلك التقى وزيرا خارجيّة قطر والإمارات نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر في محبسه، وفي نهاية اللقاء طلب وزير خارجيّة قطر إجراء حديث خاص هامس مع مرسي، وهو ما انتقده بشدّة الشيخ مظهر شاهين في برنامجه التلفزيوني "الجانب الآخر".
لقد أشرنا في مقالة سابقة على "المونيتور"، أن التفويض الذي طلبه الفريق أوّل السيسي سيكون سيفاً ذا حدَّين. فمن ناحية قد يتسبّب فضّ الاعتصامات بالقوّة بسقوط كمّ هائل من الضحايا مع إصرار الإخوان على المتاجرة بالدماء. ومن الناحية الأخرى فإن عدم فضّ الاعتصامات بعد نزول الملايين للتعبير عن تفويض واضح لا ريب فيه، سيؤدي إلى المسّ بمصداقيّته هو والحكومة ككلّ. وبالفعل بدأ الشارع المصري يصاب بالملل والإحباط نتيجة لعدم الحسم، على الرغم من وجود تفويض واضح مدعّم برأي عام جارف واستطلاعات رأي لا تدع مجالاً لأي لبس، وقد بدأت الشكوك تتسرّب حول مدى جديّة السيسي وقدرته على تنفيذ وعوده. وتسرّبت أنباء عن أن السبب في التأجيل هو نائب الرئيس المصري المؤقّت للعلاقات الدوليّة محمّد البرادعي الذي طلب تأجيل فضّ الاعتصامات واستخدام أدوات الحوار، ما تسبب في تعرّضه إلى هجوم قاس، وبخاصة مع الحوار الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركيّة وقد نسبت إليه القول بأنه لا يمانع في الإفراج عن مرسي إذا كانت الاتهامات الموجّهة إليه غير خطيرة، وذلك في إطار صفقة كبيرة تنهي الأزمة. لكن البرادعي ردّ أن الجريدة حرّفت كلامه.
وكان مجلس الوزراء المصري قد اجتمع في 31 تموز/يوليو المنصرم، واتّخذ قراره بتكليف وزارة الداخليّة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لفضّ اعتصامَي رابعة العدويّة والنهضة، وذلك مع بثّ مباشر للأحداث حتى لا يتهم الإخوان الحكومة في ما بعد باستخدام القوّة المفرطة.
ما هو الحلّ؟
كان نقاش مع أحد الأصدقائ "الليبراليّين" حول طرق حلّ الصراع السياسي في مصر. بداية لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الصديق اقترب من الإخوان المسلمين خلال السنتَين الماضيتَين إلى درجة التحالف معهم في الانتخابات. كبرلماني سابق كانت له علاقات قويّة مع مرسي لفترة طويلة، وتوطّدت هذه العلاقة في أثناء قيام "التحالف الديمقراطي"، فأصبح على تواصل شبه يومي بمرسي في خلال فترة رئاسته، وشارك حزبه في الحكم بعدد من المسؤولين عيّنهم مرسي في مجلس الشورى وفي مناصب تنفيذيّة متعددة. لذا بدأ هذا الصديق النقاش بمحاولة إبراء ساحته، وأكّد أنه نصح مرسي قبل 30 حزيران/يونيو بالاستجابة ولو جزئياً إلى مطالب المعارضة، لكن مرسي لم يستمع إليه وصدّق تطمينات جماعته، ما جعل قراءته للواقع مشوّشة. فعجز وحتى آخر لحظة عن استيعاب حجم حركة المعارضة شعبياً ومؤسّسياً.
وسأل الصديق: "لكن ما هو الحلّ؟"، فكانت الإجابة: "أن يعترف الإخوان بالدولة المصريّة!". فردّ بدوره: "ماذا تعني؟ ألا ترى أن هذا الحلّ غريب؟ كيف يقومون بتنفيذه عملياً؟ هل يصدرون بياناً مثلاً؟!".
إن هذا الحلّ غريب فعلاً. ماذا يعني مطالبة الإخوان بالاعتراف بالدولة المصريّة؟ وهل يمكن أن نتصوّر أن مرسي مثلاً وهو رئيس مصر، لم يكن يعترف بالدولة التي يرأسها؟ ولكن من دون هذا الحل سنظلّ ندور حول المشكلة من دون أن نتعامل مع جوهرها. بالطبع ثمّة أشياء أخرى مطلوبة، كأن يتعهدّوا بالتوقّف عن محاولة تغيير الهويّة المصريّة، ويقوموا بحلّ المنظمة الدوليّة ويطرحوا شركاتهم وأصولهم أمام المساهمين، بالإضافة إلى تفكيك الميليشيات والتحالفات مع المنظمات الإرهابيّة والاكتفاء فقط بحزب سياسي. أما أن يستمرّوا في إدارة منظّمة سريّة متشابكة متعدّدة المجالات والجنسيّات، فهو أمر يجعلهم دولة داخل أي دولة، وبالتالي هم يشكّلون خطراً على أي دولة يعملون بها، بخاصة وأنهم لا يعترفون بمفهوم الدولة الوطنيّة، أي الدولة التي تقوم على رقعة أرض محدّدة تمثل الوطن لأمة ما. فهم يرون أن الوطن الحقيقي للمسلمين هو الإسلام وأن مصر مجرّد "حتّة طين" أو "ما الوطن إلا حفنة عفنة من تراب" بحسب ما قال سيّد قطب، وبالتالي "طزّ في مصر" بحسب ما قال المرشد السابق مهدي عاكف الذي يقبع الآن في السجن.
هل من العدل أن يطلب البعض من الإخوان ذلك؟ ليس من المعتاد أن تملي على المختلفين معك معتقداتهم السياسيّة، لكن بالتأكيد ثمّة ثوابت في أي دولة، والثابت الأوّل هو وجود الدولة نفسها. فهل من المنطقي أن يتصدّى حزب سياسي للحكم في دولة بينما هو لا يهتمّ بسلامة أراضيها، بل يعمل على أخونة أو تفكيك تلك الدولة (بحجّة تطهير الدولة العميقة)، ويسعى إلى تحوير ثقافتها وهويّتها وتغيير طريقة الحياة فيها؟ المصريّون لن يرفضوا التحالف أو الاتحاد مع دول أخرى عربيّة أو إسلاميّة، لكن يبقى الوطن وطناً. أما الإخوان فهم لا يعترفون بمفهوم الوطن ولا المواطنة، فهم يقبلون أن يرأس مصر ماليزي مسلم (على الرغم من أنه ليس مصرياً) وينكرون هذا الحقّ على مصري مسيحي (على الرغم من أنه مصري ولكنه في نظر الإخوان "ذمّي"). هل من المنطقي أن نطالب المصريّين – أقدم شعوب العالم - بقبول وجود قوّة سياسيّة هي عبارة عن جناح سياسي أو واجهة سياسيّة لمنظمة دوليّة سريّة غير مشروعة تعمل من تحت الأرض وتستخدم كلّ الأساليب المشروعة وغير المشروعة، السلميّة والعنيفة، لهدم دولتهم وتغيير هويّتهم وزعزعة وحدة شعبهم؟
تقليدياً يرى الإخوان أن مثل هذا الحلّ يدمّر الأساس العقائدي للجماعة، وأسلوب بسط سيطرتها على المجتمع بأخونته (أي التلاعب في جيناته الثقافيّة ليعتنق عقيدة الإخوان نفسها) من خلال تعديل التشريعات والمناهج التعليميّة والسيطرة على الإعلام والصحافة والمؤسّسات الدينيّة (الأزهر ووزارة الأوقاف والمساجد) والثقافة والأنشطة الاقتصاديّة، سعياً إلى أن يصبح المصريّون (أو مواطني أي دولة مستهدفة) مستعدّين ومرحّب بهم في الحكم الإخواني. لكن إذا كانت جماعة عمرها 85 سنة عاجزة عن تطوير نفسها، هل يمكن أن نطلب من دولة وأمّة عمرها آلاف السنوات أن تتنازل عن وجودها؟ إن الطبيعة الوجوديّة للصراع هي التي أدّت إلى هذا القدر من الاستقطاب الحاد الذي سيصل حتماً إلى نقطة اصطدام، ما لم يغيّر أحد الطرفَين مساره.
هل يستطيع الإخوان أن يأخذوا مثل تلك الخطوة، فيعدّلوا أجندتهم السياسيّة لينافسوا على الحكم من دون أن يسعوا لتغيير هويّة المجتمع وطبيعة الدولة؟ من المرجّح أن الجيل القديم لن يتمكّن من ذلك، بل إنه يحاول تأجيج الموقف لاستمرار حالة الاحتراب. فالهدوء يترافق مع استحقاقات داخليّة تجعل أعضاء الجماعة يحاسبون تلك القيادات على الطمع والاستعلاء وسوء التقدير، التي تسبّبت في انهيار شعبيّة الجماعة في مصر والمنطقة وفضحت علاقاتهم بمنظمات الإرهاب وأدّت إلى تهديد وجود الجماعة نفسها. أما استمرار الأزمة، فسيؤجّل عملية المحاسبة إلى تاريخ غير محدّد، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. هل تنجح قيادات إخوانيّة سابقة ذات شعبيّة ما زالت ذات تأثير داخل الجماعة، قيادات مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب وكمال الهلباوي وختار نوح الذين انشقوا عن الإخوان بسبب خلافات مع مكتب الإرشاد الحالي، أن تقود حركة إصلاحيّة تعيد صياغة المشروع الإخواني بصورة عصريّة لا تصطدم بالدول والشعوب والقوانين المرعيّة؟ لقد طلبت حركة «إخوان بلا عنف» قيادات الإخوان بالاستقالة، وأعلنت نجاحها في إقناع عدد كبير من شباب الإخوان الوافدين من المحافظات بمغادرة اعتصامَي رابعة العدويّة والنهضة في خلال أيام طواعيّة، وذلك حرصاً على حياتهم وإعلاءً لمصلحة البلاد. هل هذه حركة إصلاحية أصيلة ولها شعبيّة وتأثير داخل الجماعة، أم هي مجرّد أفراد استطاعت الأجهزة الأمنيّة تجنيدهم؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل.
لكن إذا كان بقاء الجماعة نفسه مرهوناً بقدرتها على تطوير عقيدتها للتوافق مع ظروف المجتمع، هل يستطيع جيل جديد من قيادات الإخوان (أو حزب الحريّة والعدالة) تحقيق نقلة نوعيّة في الفكر والأسلوب التنظيمي ودرجة الشفافيّة، تجعل وجود الإخوان كمنظمة سياسيّة غير متعارض مع وجود مصر، أو أي دولة وطنيّة؟ هل يستطيع الإخوان أن يتخطوا مرحلة الجماعة المحظورة ليعملوا في إطار الشرعيّة، كحزب سياسي يستمدّ قراره من داخله، وليس واجهة زائفة تتخفّى وراءها شبكة دوليّة سريّة غير مشروعة؟
ويبقى أن الإجابة على هذا السؤال وليس الاعتصام، أي اعتصام مهما طال، هي التي ستحدّد مصير الإخوان.