لم يعد الملك عبد الله الثاني يخفي هواجسه حول مصير سوريا "ما بعد الأسد"، وخطر وقوعها في يدّ الإسلاميّين، تحديداً جماعة الإخوان المسلمين التي لا يبدي الملك شعوراً بالارتياح تجاهها، لا على الصعيد المحلي ولا الإقليمي ، بحسب ما كتب مؤخّراً الصحافي الأميركي جيفري غولد بيرغ في مجلة "أتلانتيك"، عندما نقل عن العاهل الأردني انتقاده لكلّ من الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان، اللذين تجمعهما خلفيّة سياسيّة إسلاميّة. وعلى الرغم من أنّ موقف الملك هذا يأتي في دائرة السياسة الخارجيّة، إلاّ أنّ له امتداداً في المعادلة الداخليّة!
هذه الهواجس الملكيّة ليست جديدة! فمنذ بداية الثورة السوريّة، راهنت المعارضة الإسلاميّة التي تمثّل الخصم السياسي الأبرز للحكومة، على أنّ نجاح الثورة السورية وبالتزامن مع نجاح الإخوان المسلمين في كلّ من مصر وتونس في الإمساك بمقاليد الحكم (عبر الانتخابات النيابيّة هناك)، سيعزّز قوّة الإخوان الأردنيّين في مواجهة النظام، ما يعظّم المكاسب التي يمكن الحصول عليها مباشرة في موضوع الإصلاح السياسي وغير مباشرة من خلال ما يمكن أن تجنيه الجماعة عبر مشاركتها في العمليّة السياسيّة.
من جهة أخرى ، رأت قراءة الملك بأنّ النظام السوري يمتلك قاعدة صلبة تقوم على مؤسّسات عسكريّة وأمنيّة ودعم اجتماعي (من الطائفة العلويّة)،ما جعل من توقّعات سقوطه خلال العام 2011 أمراً لم يتحقّق. وهو التوقّع الذي نجح فيه الملك على الرغم من التقديرات الأميركيّة والغربيّة المعاكسة، عندما قال للرئيس أوباما في نهاية ذلك العام بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد سيبقى في الحكم في العام 2012، وفق ما نقل مصدر سياسي مطّلع وموثوق.
هذه الحسابات المتضاربة تجاه سوريا بين كلّ من مؤسّسة القصر والإخوان المسلمين انعكست على المعادلة الداخلية بقوّة. فالإخوان المسلمون وضعوا شروطاً سبعة للمشاركة في الانتخابات النيابيّة التي أجريت في مطلع العام الجاري ، تشي ضمنياً بتغيير قواعد اللعبة السياسيّة في البلاد وتقود عملياً إلى تقليص كبير في صلاحيّات الملك ونفوذه الدستوري والقانوني والسياسي. وقد قاطعوا الانتخابات احتجاجاً على عدم تحقيقها.
في المقابل، عمل القصر على إدخال تعديلات تواكب التحوّلات الإقليميّة ومزاج الشارع العربي. فقام بتعديلات دستوريّة وتغييرات على قانون الانتخاب وبعض الإصلاحات السياسيّة، بما يحسّن من صورة النظام خارجياً وداخلياً من جهة، في حين يبقي الملك الطرف الأقوى في المعادلة السياسيّة من جهة أخرى.
وراء السجالات الساخنة التي تظهر بيّنة، تثوي حجج أخرى للطرفين (الدولة والإخوان). فالقصر يجادل بأنّ الهدف الحقيقي للإخوان من تقليص صلاحيّات الملك، يتمثّل في السيطرة على النظام السياسي، إذ إن الجماعة تُعتبَر الحزب الوحيد المنظّم القادر على الاستفادة من تراجع هذه السلطات الملكية، ما يعني بعبارة بعض المسؤولين الكبار "تسليم البلاد لجماعة الإخوان". أمّا الإخوان، فيرون بأنّ القصر يسعى إلى شراء الوقت وعدم القيام بإصلاحات حقيقيّة والاكتفاء بإصلاحات جزئيّة وشكلية، مع الإبقاء على قواعد اللعبة السياسيّة، إلى حين تخطّي موجات الربيع الديمقراطي العربي.
لكن الأكثر أهميّة، هي تلك الظلال الثقيلة والمرعبة التي تلقيها الصور القادمة من دمشق في عمّان، إذ تحتلّ مشاهد الفوضى والقصف والذبح والقتل وهواجس الحرب الأهليّة والإعدامات زوايا الرؤية كاملة لدى غالبيّة المواطنين الأردنيّين، سواء كانوا مع الثورة السوريّة ( حال الغالبيّة) أو مع النظام ( حال الأقليّة من قوميّين ويساريّين ويمينيّين أردنيّين محافظين).
ليس ذلك فحسب، بل قصمت أصداء الثورة السورية ظهر المعارضة الأردنيّة وتفكّكت عرى التحالف بين الإسلاميّين (الذين وقفوا بقوّة إلى جانب الثورة) من جهة والقوميّين واليساريين من جهة أخرى (الذين وقفوا إلى جانب نظام الأسد). فاختلفت مواقفهم ليصلوا إلى درجة التخوين المتبادل والصدام السياسي والفكري.
بالتالي، فإنّ ما تلقيه ظلال المشهد السوري في عمان تجاوز رهانات النظام إلى ما هو أبعد من ذلك. فراح يبثّ حالة من الخوف والذعر بين المواطنين الأردنيين الآتين من تجارب متشابهة، عزّزها تخبّط التجارب الديمقراطيّة الجديدة في حكم الإسلاميّين في مصر وتونس، ما خدم النظام السياسي على هذا الصعيد وأضرّ بالإسلاميّين.
لم تغب هذه الحسابات عن السياسة الأردنيّة تجاه سوريا. فبعد أن استنفد الملك الأمل بتصحيح مسار الرئيس الأسد (وقد أرسل إليه رئيس الديوان الملكي مع بدايات الثورة ووجّه إليه جملة من النصائح) وبعد أن فقد الرجاء في ما يتعلّق بإمكانية إنقاذه وأصبح محرجاً واقعاً بين تجاذبات دوليّة وإقليميّة شديدة ، ما بين محاولات إنقاذ النظام السوري وإصلاحه من جهة ومن أخرى أجندة حلفاء الملك غربياً وعربياً الذين يسعون إلى الإطاحة بالأسد بقوة.
على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها الملك من حلفائه العرب لفتح الحدود أمام عبور الأسلحة إلى جنوب سوريا، إلاّ أنّه بقي متمسّكاً بالقلق من القاعدة والإسلاميّين هناك. وقد تكرّر جواب المسؤولين الأردنيّين: "ما هي الضمانات حتى لا تصل هذه الأسلحة إلى أيدي الأصوليّين؟".
في الأشهر القليلة الماضية حدثت متغيّرات مهمّة على الجبهة السوريّة تمثّلت (أولاً) بصعود القاعدة بقوّة، ما أثار قلق الغرب والولايات المتحدة الأميركية، و(ثانياً) بدخول حزب الله بصورة مباشرة على خطّ الصراع المسلّح، و(ثالثاً) ببروز إرهاصات لتطهير عرقي لصالح العلويّين في المناطق الساحليّة وفقاً لبعض المسؤولين الأردنيّين الكبار.
مثل هذه التطوّرات تشي بخطر محدق وكبير على الأردن يتخطّى ضرر الفوضى والتوتّر على الحدود الشماليّة ليصل إلى احتمال انفجار أزمة اللاجئين السوريّين القادمين إلى عمّان، والذين تجاوز عدد القادمين الجدد منهم النصف مليون لاجئ. فإذا تدهورت الأوضاع أكثر، يتوقّع مسؤولون وصول العدد إلى مليونين، أي ما يعادل 40 في المئة سكان المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وهو بالتأكيد سيناريو لا يمكن القبول به أو احتماله داخلياً.
إلى ذلك، دفعت المتغيّرات الجديدة بالموقف الأردني نحو الولوج أكثر في الشأن السوري والاشتباك معه سياسياً ودبلوماسياً، وحتى عسكرياً. على الصعيد الدبلوماسي والسياسي، ركّز الملك في زيارته الأخيرة إلى واشنطن قبل أسابيع على صعوبة الحسم العسكري وعلى أن الحلّ السياسي هو الأمل الوحيد لتجنّب سيناريو الفوضى والحرب الأهلية التي تسمح بصعود كبير للقاعدة وانتشار أوسع لها، وهو ما أكّده الملك بحسب ما نقل عنه الوفد الصحافي المرافق له إلى واشنطن.
لكن مصادر مرافقي الملك إلى واشنطن، أكّدت أنّ الأميركيّين أبلغوه بأنّ محاولات إنقاذ الحل السلمي- السياسي لن تطول أكثر من نهاية العام الحالي. وفي حال فشلت هذه الجهود فإنّ مصادر دبلوماسيّة أردنيّة تتوقّع أن يلجأ الأميركيّون إلى تدخّل عسكري قوي في سوريا، إمّا إلى دعم لوجستي كبير للمعارضة المسلّحة أو ما يسمى بـ"سيناريو صريبا"، أي ضربات جويّة تضعف الأسد وتؤدّي إلى تغيير موازين القوى نهائياً.
لغاية اليوم، يفضّل القصر الملكي في الأردن الحلّ السياسي، ويرى أنّه الأكثر تحقيقاً للمصالح الأردنيّة. لكن في حال لم يفلح مؤتمر جنيف 2 في تجسير الفجوة بين المواقف الدوليّة والإقليميّة، فإنّ الأردن سيفكّر في "سيناريو درعا" أو المساعدة على خلق مناطق آمنة في الجنوب السوري لتحتضن اللاجئين وتستقبل مئات الآلاف من الذين سبق ولجأوا إلى الأردن، الأمر الذي يفترض تغيير موازين القوى في الجنوب عبر السماح بإدخال أسلحة معيّنة للثوّار، وهو سيناريو يفكّر فيه الأردن بصورة جديّة.
إنّ الخشية من صعود الإسلاميّين في سوريا، سواء الإخوان أو القاعدة، يرافق السياسة الأردنيّة حتى عند التفكير في دعم المعارضة المسلّحة. فالأردن يصرّ على تقوية فصائل من الجيش الحرّ والثوار، وحتى المعارضة السياسية التي تُعتبَر أقرب إلى العلمانية أو التوجهات السياسيّة غير الإسلاميّة. ولعلّ هذا ما يجعل الأجندة الأردنيّة تختلف عن تلك العربيّة والتركيّة عموماً، والذي نجح في إقناع الإدارة الأميركيّة وبعض الدول العربية بجدواه وضرورة الانتباه إليه مؤخراً، بصورة خاصة عند لقاء الملك بأوباما في خلال زيارته الأخيرة لواشنطن.