كل عوامل التفجير المذهبية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية، تتجمع في مدينة طرابلس. ثاني مدن بلد الأرز سكاناً بعد بيروت، وعاصمة شمال لبنان، تبدو وكأنها تجسيد فعلي لأصل اسمها اليوناني "تريبولي"، أو المدينة الثلاثية. فهي مشلعة اليوم بين نطاقها العلوي الضيق، وبين انتشارها السني الأوسع، وبين الاثنين خط تماس دائم، يتحول منذ نحو 4 أعوام ساحة حرب فعلية مع غروب كل شمس. ومنذ عامين يمكن مقاربة أزمة طرابلس من زاوية أخرى، على أنها اختصار دقيق ومعبر جداً للحرب الأهلية السورية: أقلية علوية، وأكثرية سنية، وحرب ثأر ورايات دينية وأصولية عمرها عقود طويلة، لا بل قرون. وقد تبدو أكثر المصادفات غرابة في هذا المجال، أن الشارع الفاصل بين الحي العلوي والمنطقة السنية من المدينة، يحمل اسم "شارع سوريا". تماماً كما كان الشارع الذي فصل بين المنطقة المسلمة وتلك المسيحية من لبنان، طيلة 15 عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية، يحمل اسم "طريق الشام". مصادفات كأن لها وظيفة دلالية ومعرفية ضرورية، حيث تمحى الذاكرة.
هكذا هي طرابلس. المدينة الوحيدة في لبنان، وربما في كل المنطقة، التي لا تزال تحيي سنوياً، ذكرى فتحها من قبل المماليك، أصحاب العقيدة السنية المتشددة، وطرد الصليبيين منها مطلع القرن الرابع عشر. والمدينة التي شهدت تأسيس كل الحركات الصوفية والسلفية الدعوية في منطقة الشرق الأدنى. منها انتقلت تلك المذاهب إلى تركيا وحتى إلى شمال أفريقيا. والمدينة الوحيدة التي يضرب البؤس عميقاً في أهلها. حتى أظهرت استطلاعات رسمية أن نحو ثلثي سكانها يعيشون دون مستوى خط الفقر...
توليفة جاهزة للانفجار إذن: فقر، وأصولية دينية، وإهمال حكومي، وذاكرة حية من أخبار الغزوات والحروب والمطلقات الدينية. لم يكن ينقصها إلا الحرب السورية القريبة منها، هي من تحمل عُرفاً اسم "طرابلس الشام"، تمييزاً لها عن "طرابلس الغرب" عاصمة ليبيا، لتشكل حرب الشام الصاعق الضروري لاندلاع هذا الكوكتيل الطرابلسي المتفجر.
علماً أن المشهد الحالي نفسه عاشته طرابلس أثناء الحرب السورية السابقة أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. فبعد انتفاضة الإخوان المسلمين في سوريا سنة 1979، تفاعلت طرابلس مع الحدث الشامي. وتحركت فيها النزعات السنية الأصولية. أكانت من أبنائها أم من الآتين إليها من حمص وحماه. وما كادت انتفاضة الإخوانيين تنهزم في سوريا بعد العام 1983، حتى كان رد الفعل في طرابلس، إعلان إمارات أصولية سنية في كل شارع وحي من أحيائها. إمارات حاولت الاتكال على دعم فلسطيني لها، في مواجهة نظام حافظ الأسد، الذي كان جيشه متمركزاً يومها في غالبية المناطق اللبنانية. لكن بعد حسم الأسد لمعركته في حمص وحماه، وبعد انكسار ياسر عرفات في بيروت نتيجة الاجتياح الاسرائيلي لكل لبنان في حزيران 1982، تفرغ الأسد لطرابلس، فدخلتها قواته، وحسمت المعركة فيها، بعد سلسلة دامية من المواجهات والتصفيات، بين قواته وبين الأصوليين السنة، لا تزال ذكراها حية اليوم، لا بل هي تنبعث اليوم فاعلة أكثر من اي حساب آخر.
هكذا، وكنتيجة لكل تلك العوامل، صارت طرابلس منذ عامين برميل بارود دائم الجهوزية للانفجار. وهو ما يفسر التطورات والأحداث غير المعقولة التي شهدتها المدينة طيلة تلك الفترة. كأنها باتت منطقة خارجة بالكامل عن سلطة الدولة اللبنانية. أو حتى عن سلطة أي دولة، أو أي سلطة. يكفي تعداد حوادث قليلة معبرة:
في 10 شباط 2012، وقع انفجار كبير في طرابلس، تبين أنه حصل في مستودع للذخيرة والاسلحة المعدة للتصدير أو للاستخدام المحلي. قتل رجل واصيب ثلاثة، ولم تعرف أي تفاصيل أخرى عن المخزن: لمن هو؟ من اين جاءت اسلحته الضخمة وإلى أين تذهب؟
في 27 نيسان 2012، أعلن الجيش اللبناني أنه ضبط بالتنسيق مع قوات الامم المتحدة الموقنة في جنوب لبنان، شحنة كبيرة من الأسلحة والمتفجرات على متن سفينة كانت متجهة إلى مرفأ طرابلس. السفينة التي تحمل اسم «لطف الله 2» كانت محملة بثلاثة مستوعبات من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة مع ذخائرها بكميات كبيرة. ورغم مرور 11 شهراً على الحادثة، لم تعلن السلطات اللبنانية بعد أي نتيجة رسمية حول حقيقة الأمر.
في 13 أيار 2012، أعلن جهاز الأمن العام اللبناني أنه تلقى معلومات من أجهزة استخبارية غربية عن وجود أشخاص مشتبه بتورطهم في نشاطات إرهابية لصالح تنظيم "القاعدة". فعمد إلى توقيف أحدهم في طرابلس،واسمه شادي المولوي. غير أن الخطوة أدت إلى اشتباكات في المدينة أوقعت 3 قتلى و19 جريحاً. في 22 ايار أطلق سراح المولوي، بضغط من رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، وهو من طرابلس ايضاً، في انتظار نتائج التحقيق القضائي. بينما كان السفير السعودي في بيروت يسلم رئيس الجمهورية اللبنانية رسالة من الملك السعودي، يقول فيها ان مملكته تتابع «ببالغ القلق تطورات أحداث طرابلس وخصوصاً لجهة استهدافها لإحدى الطوائف الرئيسية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي اللبناني". ويقصد بذلك الطائفة السنية. ».. لكن في 15 آذار 2013 صدر قرار اتهامي قضائي بحق المولوي، فرض إعادة توقيفه. غير أن المشتبه به أعلن عبر وسائل الإعلام أنه لن يخضع للقضاء اللبناني. فتوقفت الإجراءات الرسمية عند هذا الحد.
في 18 كانون الثاني 2013، حاول مسلحون أصوليون سنة اغتيال وزير من طرابلس أيضاً، هو وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي، بإطلاق النار على سيارته في شارع في المدينة، ومن ثم بملاحقته على طريقة أفلام الحركة والسرعة في عدد من شوارع طرابلس. أصيب في تبادل الرصاص أحد المسلحين وأوقف. لكن في 24 شباط الماضي، عمد المسلحون الأصوليون السنة إلى اقتحام المستشفى حيث كان رفيقهم موقوفاً وأطلقوا سراحه. قبل أن يسلم مجدداً من قبلهم نتيجة وساطة شيوخ سلفيين. شرط عدم ملاحقة أي من منفذي الهجوم الذي سجلته كامرات مراقبة المستشفى.
وفيما هذه الأحداث الغريبة تتوالى، كانت الاشتباكات على خط التماس العلوي السني مستمرة بتقطع. حتى سجلت مع أحداث اليومين الماضيين، 15 جولة من الاشتباكات العنيفة على مدى أربعة أعوام. ذهب ضحيتها وفق تقديرات أمنية رسمية 123 قتيلاً، ونحو 920 جريحاً، بين طرفي الصراع المذهبي. يضاف الى ذلك سقوط أكثر من 20 قتيلا ونحو 150 جريحا جراء إشكالات أمنية فردية متفرقة، كانت نتيجة طبيعية لحالة الفلتان الأمني في المدينة.
غير أن تطورات الأيام الماضية أضفت عناصر تصعيدية جديدة إلى المشهد الطرابلسي. ما جعل المدينة تحبس أنفاسها وكأنها على شفير انفجار كبير. من هذه العناصر ما يرتبط بالحرب الأهلية السورية، وتدهور الأوضاع في المناطق السورية القريبة من لبنان، كما على الحدود بين البلدين. كما بالمواقف الخارجية حيال تسليح المعارضة السورية. مع خشية كثيرين أن يمر بعض هذا التسليح بلبنان. كما كانت الحال مع باخرة "لطف الله 2" المصادرة او مخزن الأسلحة المنفجر سابقاً. لا بل أكثر من ذلك، ثمة مخاوف كبرى حيال قضية استخدام الأسلحة الكيماوية، أو نقلها. خصوصاً بعد الكلام عن استخدام غير مسبوق لهذا السلاح في حلب قبل ايام. وهو ما سيخصص له موقعنا بحثاً لاحقاً.
لكن يبقى عنصر آخر من عناصر التصعيد، وهو المرتبط بحروب التصفيات الطرابلسية الداخلية. ذلك أنه بعد ظهر يوم الاثنين الماضي في 18 آذار، أعلن أحد ابرز المشايخ السلفيين في طرابلس، الشيخ سالم الرافعي، في لقاء مع حشد من أنصاره، أن «نصرة الثورة في سوريا جهاد وواجب شرعي». ودعاهم إلى «الاستعداد والجهوزية لأن المعركة الكبرى قادمة وقريبة جداً. وهي معركة الحق ضد الباطل، لإعلاء راية الإسلام». وفي كلام موجه بشكل مباشر إلى غير السنة في طرابلس، كما إلى قسم من السنة غير الموالين للحركات الأصولية في المدينة، قال الرافعي: «أقول لكم يوجد من هم أعداء أخطر من حركة أمل وحزب الله (الشيعة) عليكم، وهم أبناء جلدتنا الذين يجلسون معنا ويأكلون من خيراتنا، وهم من أهل السنة الذين يتآمرون علينا وعلى البلد ويعدّون أنفسهم لمحاربتنا. هؤلاء هم أعداؤنا. هؤلاء الذين يمكّنون لحركة أمل وحزب الله (الشيعة) في مناطق أهل السنة «. قبل أن يختم معلناً: "إذا بدأت المعركة، فلن نبدأها بجبل محسن (الحي العلوي) ولا على حزب الله وحركة أمل، لكن سنبدأها بالذين يخونون الله ورسوله ويدّعون أنهم من مشايخ أهل السُنة". بعد ساعات على هذا الكلام عاد التوتر والقنص والاشتباكات إلى ليل طرابلس. وهي ليال باتت تحسب مرور كل ليلة إنجازاً، لأن الانفجار الكبير لم يقع بعد.