كل حادث في لبنان، كبيرا كان أم صغيراً، يتخذ منحى طائفياً خطيراً ويتصل في شكل أو آخر بالأزمة في سوريا هذه الأيام، باعتبار أن طائفة المسلمين السنة الواسعة في البلاد تتفاعل شعورياً وإعلامياً وحتى عملياً في بعض المواقع والأحداث مع الثوار المعارضين في البلد المجاور للبنان، في حين تتعاطف طائفة المسلمين الشيعة الواسعة هي أيضاً مع النظام السوري على المستوى نفسه.
مراراً شيعت جموع من كلا الطائفتين رجالاً قتلوا في المواجهات داخل الأراضي السورية، آخرهم كان من "حزب الله" الذي نعاه السبت الماضي قائلاً أنه "استشهد في خلال أداء واجبه الجهادي" من دون أن يقدم مزيدا من التفاصيل.
أما المسلحون اللبنانيون السُنّة الذين قضوا في سوريا فتبيّن لاحقاً أنهم غير منظمين إلى حد بعيد، وقد أقدموا على محاولة مساعدة الثوار بدوافع عاطفية دينية استثارها فيهم بعض أئمة المساجد في طرابلس، ثانية أكبر المدن اللبنانية وعاصمة الشمال التي تعج بجمعيات وتنظيمات إسلامية سنية تتلقى دعماً من جهات وشخصيات سياسية متنوعة، في حين يبقى "تيار المستقبل" الأقوى شعبياً فيها كما في منطقة عكار وكل مناطق الحضور السني الكثيف في لبنان، كصيدا وبيروت وبعض مناطق البقاع.
ويجتذب رئيس "المستقبل" سعد الحريري في شكل خاص تأييداً كبيراً في طائفته على رغم ابتعاده عن البلاد وإقامته الطويلة خارج لبنان وتراجع قدرات تياره المالية والخدماتية وتعرضه لحملة منافسة شديدة من خصومه، سياسياً وإعلامياً.
تعود المشكلة في عمقها بين الجسمين السياسيين الرئيسيين عند المسلمين السُنّة والشيعة، "تيار المستقبل" و"حزب الله"، منذ عام 2005 إلى قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. يعتقد "المستقبل"- عن حق أو عن خطأ ، هذا حديث آخر- أن بعض العناصر التابعة لجهاز أمن "حزب الله" متورط في قتل الحريري الأب بمتفجرة ضخمة يوم 14 شباط- فبراير من ذلك العام. لطالما ردد قياديو "المستقبل" ونوابه ووسائل إعلامه هذه المقولة التي عززها القرار الإتهامي الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان باتهامه أربعة كوادر أمنيين في الحزب بالتورط في تلك الجريمة .
ومعلوم أن قيادة حزب الله رفضت هذا الإتهام كما رفضت تسليم الأربعة المطلوبين واعتبرت المحكمة الدولية أداة أميركية- صهيونية. ولم تفعل كل الأحداث والتطورات التي تلت اغتيال الحريري سوى تعميق هوة عدم الثقة بين الجانبين.
حالة الشكوك هذه سرعان ما ضم إليها أنصار تيار المستقبل الجيش اللبناني، الذي أُدخل فيها طرفاً، وذلك من زاوية العلاقة الوطيدة التي أقامتها قياداته المتعاقبة مع "حزب الله" . وكانت تلك العلاقة ولا تزال مغطاة سياسيا وشرعياً من الحكومات المتعاقبة ، وحتى تلك الحكومات التي تولاها رئيسا الحكومة السابقين، الحريري الأب والإبن، كانت تقرّ بتشريع التنسيق بين أمن "حزب الله" ومخابرات الجيش اللبناني وتعلن ذلك في بياناتها الوزارية، أي برامجها للحكم.
لم تتح الظروف الضاغطة على الحريري وحلفائه ، ولا الإمكانات في ظل موازين القوى المختلة دوما لمصلحة الحزب الشيعي الأقوى من كل القوى الأخرى مجتمعة في بعض المناطق اللبنانية بما فيها مؤسسات الدولة، حتى مجرد البحث في العلاقة بين الجيش وحزب الله الذي يحمل سلاحه "شرعية المقاومة" من الدولة. وعلى هذا الأساس يتعامل معه الجيش على قاعدة "التكامل" في العمل لحماية لبنان من إسرائيل.
مع إعلان "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" الذي يقوده الجنرال ميشال عون التفاهم ثم التحالف في ما بينهما منذ العام 2006 وترسخ هذا التحالف عند محطات كثيرة، ازدادت الشكوك وتعاظمت عند "المستقبليين" ، لا سيما ذوي النبرة الدينية المتشددة، مثل أعضاء مجلس النواب الشماليين: معين المرعبي ومحمد كبارة وخالد الضاهر، الذين يجاهرون في انتقادهم القوي للمؤسسة العسكرية. في خلفية تفكيرهم أن في قيادة هذه المؤسسة مجموعة ذات وزن وتأثير كبيرين تناصب السُنَة العداء. وهي مكونة من ضباط برتب عالية يحتلون مواقع رئيسية، في مديرية المخابرات خصوصا ومديرية التوجيه ، ويتفاعلون مع توجهات "حزب الله" والنظام السوري والجنرال عون، الذي كان قائداً للجيش بين العامين 1984 و1990.
هكذا، عندما قتل أحد مشايخ السُنة الشيخ أحمد عبد الواحد وأحد مرافقيه في حادث إطلاق نار عند حاجز للجيش اللبناني في عكار خلال أيار – مايو الماضي لم يتردد نواب "المستقبل" في إطلاق تهمة الإغتيال على الضباط المسؤولين عن الحاجز والمطالبة بمحاكمتهم مع المسؤولين عنهم، على أساس أن الشيخ عبد الواحد كان فاعلاً في تأييد الثورة السورية ومساندتها في منطقة وادي خالد الحدودية وعكار عموما. كادت تلك المسألة تشعل نزاعا طائفيا بين مسلمي عكار ومسيحييها. وحلت المسألة في النتيجة بوساطة من قوى 14 آذار بين قيادة الجيش وعائلتي الشيخين القتيلين، فسجن ثلاثة ضباط لأسابيع ثم أطلقوا بهدوء وطوي الموضوع.
لكن "المستقبل" وحلفاءه ظلوا يشعرون بأن في مراكز القرار في المؤسسة العسكرية من يتربصون بهم استنادا إلى علاقات بـ "حزب الله" والنظام السوري والجنرال عون. ولعل التطورات التي تلت محاولة قوة من مخابرات الجيش اللبناني، يوم الجمعة الماضي، توقيف مطلوب في بلدة عرسال على الحدود الشمالية مع سوريا أبلغ مثال على هذه النظرة.
ففي مقابل بيانات قيادة الجيش عن تعرض دورية المخابرات لهجوم بعدما أوقفت المطلوب خالد أحمد حميّد، مما أدى إلى مقتله مع الضابط بيار مشعلاني والرتيب ابرهيم زهرمان، يصر أهالي عرسال عبر رئيس بلديتهم وآخرين ، ويدعمهم "المستقبل" عبر وسائل إعلامه، على رواية أخرى مختصرها أن عشرات من أبناء عرسال هاجموا الدورية معتقدين أنها قوة سورية تابعة للنظام أو مجموعة مسلحة من "حزب الله"، بعدما نفت الأجهزة الأمنية أن تكون الدورية تابعة لها. وكان الرد عليهم لاحقا بنشر صور تظهر صور عسكريين قتلى ومصابين ومعتقلين بثيابهم العسكرية.
لكن الأخطر هو ما يردد مسؤولو "المستقبل" من ادعاءات عن وجود خطة لضربه ، تقوم على الآتي:
- افتعال حادثة عرسال توقيتا وتنفيذا واستدراج ردود الفعل عليها للقول لاحقا إن عرسال بؤرة أمنية يعشش فيها الأصوليون الجهاديون ، وتحديدا جماعة "النصرة" السورية في حين أن ثلاثة آلاف من أبنائها هم جنود في الجيش اللبناني الذي تواليه البلدة وتمحضه ثقتها وترفض التعرض له. أما الغاية فهي تطويق عرسال ومنع أبنائها من دعم الثوار في سوريا، وأيضا تبرير سلاح "حزب الله" بالقول إن هناك بؤرا أمنية خارجة على القانون غير المناطق التي يسيطر فيها الحزب. مما يستلزم التصدي سياسيا على قاعدة أن ثمة استهدافا لطائفة في لبنان.
- ويقول أنصار "المستقبل" في عرسال في هذا السياق إن الدورية العسكرية كانت تضم عناصر من الحزب الشيعي، بدليل أن ثمة ثلاثة قتلى غير الضابط والرتيب، وقد يكون أحد القتلى المتبقين العنصر الذي شيعه "حزب الله" في عربصاليم بالجنوب يوم الأحد وقيل إنه قتل في سوريا.
- تضخيم ظاهرة الشيخ الأسير والتصدي لقافلته السياحية في أعالي كسروان قبل نحو أسبوع لتصوير أنه يمثل السُنة في لبنان في حين أن الواقع يخالف ذلك. وبالمقابل تنظيم تحركات شعبية مؤيدة للجيش وقيادته في مناطق شيعية ومسيحية، كما حصل بعد قتل الشيخ عبد الواحد في عكار .
- الأهم في الخطة التي يتحدث عنها "المستقبليون" أن غاية واضعيها تطويق مبادرة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري التي أعلنها تلفزيونيا الخميس الماضي من باريس ، توصلاً إلى قانون للإنتخابات النيابية باتت مهددة أكثر من أي يوم سابق.
وثمة من يذكّر في لبنان بأن السُنّة يشكلون نحو 40 في المئة من ضباط الجيش وعسكرييه، وأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لا يمكنه تغطية استهداف لطائفته. وهذا كلام يحمل دلالات كبيرة في البلد المعقّد بحسابات الطوائف وتحالفاتها الداخلية والخارجية.