إذا كان العامل الأول الذي يهدد بتفجير الوضع الأمني والعسكري في لبنان، انطلاقاً من الحرب الأهلية السورية، مرتبطاً بخط التماس الفلسطيني بين مخيم اليرموك في سوريا ومخيمات الفلسطينيين حول العاصمة اللبنانية ( راجع المقال الأخير على موقعنا) فإن عامل تفجير عسكري آخر ينذر بالمخاطر على لبنان. وهو يتمثل بذلك الصراع العنيف على خطوط التماس المذهبية والاقتصادية والجيوبوليتيكية، في مثلث دمشق – حلب والساحل السوري. صراع تقع الجغرافيا اللبنانية على تماسه، لكنها في قلب حساباته المفخخة.
بعد أكثر من 22 شهراً على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، بات الخبراء يُجمعون على أن العصب الجغرافي الأساسي، أو جوهر معارك السيطرة على الأرض، تدور عند هذا المثلث الذي يربط دمشق بعاصمة الشمال السوري، او مدينة حلب، كما يربط المدينتين بالساحل السوري، ذات الغالبية العلوية المؤيدة للنظام. منذ نحو سنتين بات واضحاً للجميع أن الحرب بين النظام وخصومه تتركز على محاور هذا المثلث. فيما باقي سوريا يبدو على هامش الحرب، او في حال مجرد رد فعل، أو حتى محاولة إثبات انه جزء من الحراك السوري لا غير. هكذا تبدومنطقة الجزيرة، او الصحراء الواسعة التي تصل حتى حدود العراق، في غياب شبه كامل عن أخبار المعارك اليومية. لا اقتحامات ولا احتلالات ولا انسحابات. كأن كل سوريا، او كل نظامها أو كل معارضتها، عند تلك المثلث. استراتيجيا النظام هنا واضحة: الحفاظ على خط دمشق حلب سالكاً وآمناً للناس كما لقواه المسلحة، والإمساك به بأي ثمن كان. كما الحفاظ على تواصل هذا الخط مع مدن الساحل المتوسطية، من اللاذقية شمالاً إلى طرطوس جنوباً، مروراً بجبلة وبانياس وغيرها من واجهات سوريا على المتوسط. وفي المقابل، تبدو استراتيجيا المعارضة المسلحة معاكسة بالتمام: محاولة فصل حلب عن دمشق، أومحاولة عزل حلب على الأقل، أو محاولة إحداث ولو خرق واحد، انطلاقاً من خط حلب – دمشق في اتجاه الساحل المتوسطي لسوريا.هكذا تحولت الحرب على محاور هذا المثلث، حرباً على ضفاف نهر العاصي إلى حد كبير. وهو ما يفسر شراسة المعارك في مناطق مثل القصير وحمص وحماه وغيرها من النقاط الساخنة الممتدة على خط العاصي، والتي تشكل أهمية عسكرية مزدوجة، بمفهوم حرب المثلث نفسه، فهي تفصل بين دمشق وحلب من جهة، وتفصل بين الداخل السوري وساحله المتوسطي من جهة أخرى.
وفي هذا السياق ليست مصادفة أن يكون خط التماس العسكري والمائي، والبعض يقول الغازي والنفطي والاقتصادي، أي نهر العاصي نفسه، ينبع من لبنان، قبل ان يدخل الأراضي السورية ويجتازها بالكامل، حتى مصبه في لواء الإسكندرون الخاضع للسيطرة التركية منذ العام 1933. ومع هذا التداخل الطبيعي بين لبنان وسوريا، يأتي التداخل الأكثر تعقيداً، ألا وهو التداخل الديمغرافي والبشري. تكفي نظرة سريعة على خارطة البلدين المتجاورين، ليدرك الباحث فوراً هذا "التوغل" المتبادل بينهما. فالعاصمة السورية دمشق، متوغلة بعيداً إلى جنوب البلاد، حتى تكاد تختفي خلف جبال لبنان الشرقية. ما يجعل المسافة بينها وبين مدينة زحلة، عاصمة منطقة البقاع اللبنانية، اقصر من المسافة بين دمشق وأي مدينة سورية أخرى. وفي المقابل تتوغل الجغرافيا اللبنانية في منطقة الهرمل الشمالية بعيداً في الداخل السوري الجنوبي. حتى تصير أقرب إلى مدينة حمص السورية من أي مدينة سورية أخرى إلى حمص نفسها. ماذا يعني هذان التداخل والتوغل؟ بكل بساطة، يظهر من ذلك أن خط دمشق حلب، الذي يمر عبر حمص، قابل للوصول إليه بسهولة من الأراضي اللبنانية الشمالية. بمعنى ان أي تسلل عسكري مسلح من شمال لبنان في اتجاه حمص قد يعني تهديداً ملحوظاً لأمن الاتصال الطبيعي بين نقطتين أساسيتين من مثلث الحرب السورية: دمشق وحلب.
كما يعني أن الخط الذي يصل العاصمة السورية بالساحل السوري المتوسطي، يمر فعلياً على حدود لبنان، لا بل يمر عملياً داخل الأراضي اللبنانية. فالطريق الأقصر مسافة بين دمشق وطرطوس، لا يمكن إلا أن يعبر الأراضي اللبنانية. من منطقة عرسال اللبنانية وسط البقاع، قبالة دمشق نحو الغرب، مروراً بمنطقة القاع اللبنانية أيضاً، شمال شرق عرسال، وصولاً إلى مناطق بعلبك الهرمل، نزولاً غرباً صوب منطقة عكار شمال لبنان، التي تنتهي حدودها عند المتوسط أيضاً، بشكل محاذ للساحل السوري.
حتى هذا الحد، تبدو الإشكالية طبيعية جغرافية فقط. لكن حين ندقق بالهويات المذهبية والإتنية والسياسية الهوى، للجماعات المقيمة في هذه المناطق، والمنتشرة على جانبي الحدود، أو المتداخلة عبرها، تصير المسألة أكثر تعقيداً. ففي عرسال، المنطقة اللبنانية الأولى الواقعة على الخط اللبناني بين دمشق والساحل السوري، هناك نحو 45 ألف نسمة، كلهم من المذهب السني، وغالبيتهم بالتالي من المعارضين للنظام في سوريا. وهو ما يفسر أولاً لجوء آلاف من المسلحين السوريين المعارضين للنظام إلى هذه المنطقة من لبنان، وهو ما يفسر أكثر سلسلة الاشتباكات التي لا تحصى في هذه المنطقة، بين سكانها والنازحين إليها من جهة، وبين الجيش السوري النظامي من جهة أخرى.
في المقابل، وإلى شمال وشمال غرب عرسال، يبدأ امتداد المناطق اللبنانية ذات الانتشار الشيعي. والمؤيدة بغالبيتها للنظام في سوريا، على عكس جيرانهم. هناك تصير مشكلة اللبنانيين الشيعة في قراهم مزدوجة ايضاً. فهم يواجهون مناطق سورية سنية، وبالتالي معارضة للنظام الصديق لهم، ومناوئة لهم كذلك، مثل مدينة القصير السورية المقابلة لهم مثلاً. كما أن بعض هؤلاء الشيعة اللبنانيين موجودون تاريخياً في قرى داخل الأراضي السورية، عددها نحو 30 قرية، أرضها سورية، وسكانها شيعة لبنانيون، باتوا على خط نار الحرب الدائرة من حولهم. بعد الهرمل، ينحدر خط التماس اللبناني – السوري غرباً صوب البحر المتوسط. لكنه يصير بين تداخل سني – مسيحي وعلوي من الجانب السوري، وتداخل مماثل تماماً من الجانب اللبناني في منطقة عكار وخلفها مدينة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني. مع ملاحظة واضحة، ان المكوِّن السني إلى الجانب اللبناني من الحدود هو الطاغي على المكونين الآخرين، المسيحي ثانياً ومن ثم العلوي كأقلية لبنانية متناثرة بين بعض قرى عكار وأحد أحياء طرابلس.
ماذا يستخلص الخبراء العسكريون من جيوبوليتيك تلك الحدود؟ يقولون بكل بساطة، أنه في حال لم تتقدم حظوظ التسوية في سوريا، وإذا لم تتوصل المساعي الدولية إلى حل للصراع العسكري الدائر هناك، فإن الحرب السورية على مثلث دمشق – حلب – الساحل، قد تنذر بإدخال لبنان مباشرة في خطوط تماسها. فالمسلحون السوريون اللاجئون إلى لبنان، والمدعومون من بعض اللبنانيين، سيحاولون بالتأكيد، وهم قد حاولوا مراراً خلال الأشهر الماضية، قطع طريق دمشق مع الساحل السوري حيث يقدرون، في عرسال أو في عكار. كما سيحاولون، كما حاولوا من قبل أيضاً، التأثير على خط التواصل بين دمشق وحلب، بوسيلة من ثلاث: أما بالنار، اي إشعال المنطقة كما حصل مراراً قبل اشهر. أو بالتوغل من لبنان صوب حمص، عبر التسلل، كما حصل قبل أسبوعين حين سقط 13 قتيلاً لبنانياً كانوا يحاولون التسلل صوب قرية تل كلخ السورية من عكار اللبنانية. او بالإمدادات بالذخيرة والسلاح لمسلحي المعارضة السورية هناك.
وفي المقابل، لن يسكت النظام السوري على محاولات كهذه، لا بل من المرجح أن يرد عليها عند الحدود، كما من المرجح أن يسانده في ذلك اللبنانيون الشيعة المؤيدون له، خصوصاً الذين يسكنون في المناطق الحدودية وبالأخص الذين يعيشون داخل الأراضي السورية، لمنع المسلحين من تحقيق الهدفين المذكورين، لا قطع طريق دمشق حلب ولا قطع طريق دمشق الساحل من لبنان أو عبره.
لذلك يعيش اللبنانيون ترقباً شغوفاً لمسار التفاوض حول تسوية للحرب في سوريا. فهم يدركون، ولو لم يعلنوا أو يعترفوا، انها إلى حد كبير حرب عندهم، خصوصاً إذا قدر لها أن تستمر أو تتوسع.