رام الله – الضفّة الغربيّة: قدّم الفنّان الفلسطينيّ جاك برسكيان معرضاً صوريّاً فريداً من نوعه، رصد فيه التغيّرات التي طرأت على مدينة القدس خلال مئة عام، من خلال مجموعة 12 صور قديمة وحديثة قام بدمجهما سويّة وعرضها في قاعة المركز الثقافيّ الفرنسيّ-الألمانيّ في رام الله، في 8 تشرين الأوّل/أكتوبر 2018، ضمن فعاليّات قلنديا الدوليّ 2018. وسيستمرّ المعرض حتى 11 تشرين الثاني/نوفمبر.
وبدأ برسكيان الذي يرأس مؤسّسة المعمل للفنّ المعاصر، التي تأسّست في القدس في عام 1998 (منظّمة غير ربحيّة تهدف إلى تعزيز الفنّ وتشجيعه ونشره وصناعته)، العمل على مشروعه قبل عامين، وما زال مستمرّاً فيه، وهو يعتمد على التقاط صور حديثة لأماكن وأحياء في مدينة القدس، ومطابقتها بصور قديمة للأماكن نفسها بطريقة فنّيّة، لإظهار مدى التغيّرات التي طرأت عليها.
ولد برسكيان في القدس ويعيش فيها، وهو أحد مؤسّسي "جاليري أناديل" ومؤسّسة المعمل للفنّ المعاصر في القدس، وقد شغل منصب مدير المتحف الفلسطينيّ وقيّم عامّ عليه بين عامي 2013 و2015، كما ترأّس خلال العقد الماضي عدداً من المؤسّسات الثقافيّة، وأقام عدداً من المعارض الفنّيّة حول العالم.
ويعتمد معرض مئة عام لبرسكيان على مجموعة صور فوتوغرافيّة قديمة التقطها فريق مصوّري الـ"أمريكان كولوني" قبل قرن لمدينة القدس، وتبرّع بجزء كبير منها إلى مكتبة الكونغرس التي عرضت الصور أمام الجمهور، حيث قام بالتقاط صور حديثة مشابهة من زاوية التصوير ذاتها، للمقارنة بينها، وتقديم رؤية جديدة للمدينة تظهر حجم التغيّرات التي طرأت على المكان، من ناحية التطوّر العمرانيّ أو هدم الأبنية، والعوامل المرتبطة بذلك.
وتعدّ مجموعة الـ"أمريكان كولوني" الفوتوغرافيّة، من أبرز مجموعات التصوير في القدس، وتضمّ 15 مصوّراً، بدؤوا العمل في استوديو خاصّ بين عامي 1898 و1950، حيث نجح المصوّرون في التقاط آلاف الصور، جزء كبير منها تمّ إهداؤه إلى مكتبة الكونغرس في واشنطن، التي قامت بعمل مسح لها وعرضها "أونلاين" لجمهورها.
واستطاع برسكيان حتّى الآن من التقاط 40 صورة، باتت كما يقول لـ"المونيتور" "وثيقة بحثيّة مرئيّة فريدة من نوعها، ترصد تفاصيل الحياة في القدس ومراحل تطوّرها، والتغيّرات التي طرأت عليها خلال الاحتلالين البريطانيّ والإسرائيليّ، الأمر الذي أثّر على التطوّر السكّانيّ في المدينة وعلى شكلها"، مرفقاً الصور بلوح معلوماتيّ تعريفيّ لكلّ صورة، توضح تاريخ التقاط الصورة، والمكان الذي التقطت فيه، واسم المصوّر.
وتبدو فكرة المشروع أقرب إلى طريقة قراءة طبقات الأرض، حيث عرضت الصور القديمة في صناديق خشبيّة كبيرة (عرضها 180 سم)، مصحوبة بالإضاءة، ووضعت فوقها الصور الحديثة المطبوعة على ألواح زجاجيّة، مع إتاحة فتح الصندوق الخشبيّ ورؤية الصورة القديمة والحديثة كلّ على حدا، ليقارن حجم التغيير بين الصورتين.
ويعدّ معرض مئة عام بداية لمشروع عمل متواصل لدى برسكيان لتوثيق التغيّرات التي طرأت على المدينة، وقراءة تلك التغيّرات عن طريق الصور كما يقول، لافتاً إلى أنّ عمله المقبل سيتركّز على رصد التغيّرات في منطقة باب الخليل فقط لأهمّيّته وحساسيّته، وإصدار كتاب يتضمّن صوراً ومعلومات ووثائق تشرح التغيّرات الحاصلة في القدس، مسندة بمراجع تعود إلى الحقبة البريطانيّة، كمخطّطات التخطيط العمرانيّ، والقرارات المرافقة له.
ويعتبر باب الخليل أحد الأبواب التاريخيّة لمدينة القدس، وقد شهد تغيّرات كبيرة خلال قرن، أبرزها في عام 1922 حين شنّ البريطانيّون عمليّة هدم لبعض العقارات القريبة منه، في حين قامت إسرائيل بشقّ شارع في القرب منه في تسعينيّات القرن الماضي.
واعترضت عمل برسكيان صعوبات جمّة، أبرزها كما قال، إنّ "الكثير من الأماكن التي تمّ فيها التقاط الصور من فريق الـ"أمريكان كولوني" اختفت، سواء بالهدم أم بالبناء، ممّا أدّى إلى تغيّر معالمها وعدم القدرة على التقاط الصور منها، بينما نجا عدد قليل من تلك الأماكن، ممّا أتاح فرصة التقاط هذه الصور"، لافتاً إلى أنّ "المشروع كان محكوماً بالتقاط صور من زوايا وأماكن محدّدة، هي الأماكن نفسها التي التقط فيها فريق الـ"أمريكان كولوني" الصور، وهذه عمليّة دقيقة وصعبة استغرقت جهداً ووقتاً حتّى تمّ إنجاز 40 صورة فقط من بين 200 صورة حصلت عليها من مكتبة الكونغرس".
واستعرض برسكيان أمام عشرات الزوّار بعضاً من صوره، مقدّماً شرحاً عنها، أهمّها صورة بعنوان "منطقة الهيكل من منحدرات جبل المشارف"، يعود تاريخ إنتاجها إلى عام 1934 وطباعتها إلى عام 1939، حيث أبرز برسكيان من خلال تطابق الصورتين حجم الدمار الذي لحق بحارة المغاربة أو كما تعرف بـ"حارة اليهود"، وكيف جرى هدم الأبنية القديمة، خلال الانتداب البريطانيّ لإجراء حفريّات في المكان.
وفي صورة أخرى، لفت برسكيان إلى حجم التفاوت والاختلاف في الزحف المعماريّ الكبير بين الأجزاء الشماليّة والغربيّة والجنوبيّة من القدس، مع الجزء الشرقيّ الذي لم يطرأ عليه أيّ تغيير في البنيان، بسبب قرارات السلطات البريطانيّة آنذاك التي منعت منعاً باتّاً البناء في المنطقة الشرقيّة، وسمحت به في المنطقة الغربيّة.
وأكّد برسكيان أنّ الرسالة التي يريد إيصالها من عمله أنّ "تاريخ القدس لا يقرأ فقط بالكتب، وإنّما يمكن دراسته وتحليله من خلال الصور والأرشيفات الفوتوغرافيّة التي تحكي الكثير عن تاريخ المدينة، وماذا حدث بها من تطوّرات وأحداث وتغيّرات"، مشيراً إلى أنّ معرضه دعوة لأهل القدس خصوصاً، لإعادة تقييم علاقتهم بالمكان، وإعادة تفحّصه عن قرب، والغوص في تفاصيله.
من جانبه، اعتبر الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ سليمان منصور في حديث إلى "المونيتور"، معرض مئة عام محاولة توثيقيّة تعريفيّة هامّة، لرصد ما حدث للقدس من تغيّرات خلال هذه السنوات.
وأضاف منصور -صاحب لوحة جمل المحامل الشهيرة لمدينة القدس-: "أنا أسكن في القدس، لكنّني حين رأيت الصور الحديثة فوق الصور القديمة أصبت بالصدمة لحجم التغيير وكثرته، والذي يستهدف الوجود الفلسطينيّ من خلال هدم بيوته، وهذا التغيير لا يظهر يوميّاً للسكّان، لكنّه يتجلّى في شكل واضح عند إجراء مقارنة عمرها مئة عام".