القاهرة – هنا عاش نجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس وسيّد درويش وأمّ كلثوم وغيرهم العديد من الرموز الفكريّة والثقافيّة والفنّيّة... على أرض مصر في أزمنة مختلفة وأحياء وبيئات مختلفة ساهمت في نسج فكرهم وأدبهم وفنّهم. وعلى الرغم من تلك الاختلافات، إلّا أنّ قاسماً مشتركاً يجمع كلّ هؤلاء، هو الإسهام العميق في تكوين فكر الشعب المصريّ ووجدانه، لذلك أطلقت الدولة مبادرة "عاش هنا" لتوثيق الأحياء والبيئات والمنازل التي أفرزت هؤلاء العظماء، وتخلديها.
أطلق المبادرة الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ التابع إلى وزارة الثقافة المصريّة، منذ كانون الأوّل/ديسمبر 2016، إلّا أنّ الروتين الحكوميّ وتغيّر قيادات وزارة الثقافة، وبالتبعيّة قيادات الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ أدّيا إلى تعطيل المشروع حتّى خرج إلى النور في شباط/فبراير 2018 بانتهاء الجهاز من تصميم 70 لافتة لـ70 رمزاً من الرموز السابقة، وتركيب تلك اللافتات على المنازل التي عاشت فيها مع نبذة مختصرة عن أعمالها وإنجازاتها وحياتها.
وازداد عدد اللافتات لاحقاً في تمّوز/يوليو 2018، إلى 100 لافتة لـ100 رمز في مختلف المجالات الفكريّة والثقافيّة والفنّيّة، وبدأ تفاعل الجماهير مع المبادرة في الازدياد تدريجيّاً عن طريق اهتمام نشطاء مواقع التواصل الاجتماعيّ بتصويرها أو تصوير أنفسهم إلى جانبها، مع نشر تلك الصور على صفحاتهم. وأبدى العديد من هؤلاء النشطاء سعادتهم بالمبادرة وبرموز مصر، ممّا دفع العديد من الصحف مثل "الجريدة" والعديد من كتّاب الرأي المصريّين والعرب، في نهاية تمّوز/يوليو وبداية آب/أغسطس 2018، إلى الإشادة بها.
وفي هذا السياق، قال رئيس الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ محمّد أو سعدة لـ"المونيتور" إنّ الفكرة بدأت كجزء من مشروع مبادرة حكاية شارع التي كانت تهدف إلى حماية التراث المعماريّ لمصر من عمليّات الهدم، من خلال وضع لافتة تعريفيّة بتاريخ كلّ شارع وقيمته الثقافيّة والفنّيّة، وأهمّ رموزه الفنّيّة والثقافيّة والتاريخيّة في مدخل الشارع، مشيراً إلى أنّ الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ وجد أنّ العديد من الشوارع المصريّة، وخصوصاً الشوارع الشعبيّة تزخر بالعشرات من الرموز في مختلف المجالات، ممّا دفع الجهاز إلى تخليد ذكرى الأبنية التي عاشت فيها من خلال مبادرة "عاش هنا".
وأوضح أبو سعدة أنّ المشروع ليس مجرّد لافتة وأنّ كلّ لافتة تحتوي على رمز يمكن، من خلال عرضه على الكاميرا الخاصّة بأجهزة الهواتف الذكيّة، الدخول إلى قاعدة بيانات ضخمة يعكف الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ على إعدادها، على أن تضمّ تفاصيل أشمل وأعمق وأدقّ عن رموز مصر المعنيّة بتلك اللافتات، كما لفت إلى أنّ المشروع لن ينتهي عند حدود الـ100لافتة، وأنّ الجهاز يخطّط لأن يمتدّ ذلك المشروع تدريجيّاً إلى منازل الرموز والأعلام المصريّة كافّة، ممّا يحتاج إلى آلاف اللافتات وإلى إعداد دقيق واحترافيّ لقاعدة البيانات.
وبما أنّ الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ يبدو جهازاً مغموراً في مصر لكثرة السنوات التي ظلّ فيها من دون القيام بأيّ أنشطة بارزة ومؤثّرة، تجدر الإشارة إلى أنّه تأسّس بقرار من رئيس الجمهوريّة في عام 2001، ووفقاً للموقع الرسميّ للجهاز، فهو المسؤول عن "تحقيق القيم الجماليّة للشكل الخارجيّ للأبنية والفراغات العمرانيّة والأثريّة، وأسس النسيج البصريّ للمدن والقرى والمناطق الحضاريّة للدولة كافّة، بما في ذلك المجتمعات العمرانيّة الجديدة".
وتعليقاً على المبادرة ونجاحها، قالت معتزّة، نجلة الشاعر المصريّ البارز صلاح عبد الصبور، لـ"المونيتور" إنّها فرحت فرحاً شديداً باللافتة الأنيقة التي وضعتها وزارة الثقافة في أسفل منزلهم، وتحديداً في أسفل الشرفة التي اعتاد والدها الجلوس فيها لكتابة الشعر أو لاستقبال الزوّار من رموز مصر والعالم العربيّ، متوجّهة بالشكر إلى الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ، ووصفت مبادرة "عاش هنا" بأنّها من أرقى المشاريع الإنسانيّة الحضاريّة التي تحفظ ذاكرة أمّة عظيمة بقاماتها، وأجملها.
ومن جهته، أشاد مدير عامّ البحوث والدراسات في وزارة الدولة لشؤون الآثار المصريّة عبد الرحيم ريحان، في حديثه إلى "المونيتور" بالمبادرة، واصفاً إيّاها بأنّها خطوة بارزة لتخليد ذكرى العديد من الرموز التي أثّرت في تاريخ مصر والتي يمكن أن تضيع من وجدان الأجيال المقبلة التي لا تولي اهتماماً بالقراءة أو بالتراث السينمائيّ أو الغنائيّ القديم، وأضاف: "من خلال المبادرة، يمكن أن تهتمّ الأجيال الصغيرة بالتعرّف على تلك الرموز من خلال هواتفها الذكيّة التي أصبحت جزءاً أساسيّاً من حياتها، وبهذا تعي عظمة تاريخ بلادها وثقافتها وفنونها".
ودعا ريحان الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ إلى ضرورة تسجيل المباني التي عاشت فيها تلك الرموز كخطوة أولى، وإقامة المؤتمرات والاحتفالات التي تضمّ أغانيها وأشعارها بالجوار من تلك المباني لتتحوّل تلك المباني إلى مزار ثقافيّ وفنّيّ، وتحويل تلك الأبنية أو المنازل ومحتوياتها إلى متاحف لهؤلاء الأشخاص ثمّ فتحها سياحيّاً للزوّار من بلاد العالم كافّة.
وفرح الكاتب الصحافيّ في جريدة الأهرام عثمان فكري بالمبادرة لأسباب أخرى، حيث قال لـ"المونيتور" إنّه فرح بوضع لافتة تحت منزل عبد التوّاب يوسف، أشهر كاتب قصص ورايات للأطفال في مصر، مشيراً إلى أنّ يوسف تناسته الصحف ووسائل الإعلام كافّة، حتّى بات مجهولاً للأجيال الجديدة كافّة، بمن فيها الشباب متوسّطو ومتقدّمو الثقافة، ولفت إلى أنّ تلك اللافتات، بما فيها قاعدة البيانات التي ستتصّل بها، ستساهم في حماية تاريخ العديد من الرموز من الاندثار في ذاكرة الشعب المصريّ ووجدانه.
وأشاد الناقد السينمائيّ وأستاذ النقد في معهد الفنون السينمائيّة طارق الشنّاوي بالمبادرة، كونها تمتلك إضافة عن الدول التي اقتبست مصر منها تلك التجربة، حيث قال في تصريحاته إلى "المونيتور" إنّ المبادرة بالفعل مطبّقة في فرنسا التي تعتاد تسمية الشوارع بأسماء الرموز القاطنة فيها وإطلاق تسميات موقّتة بلافتات لكلّ شارع لبعض الرموز الحاليّة، مثل أبطال كأس العالم، وهي مطبّقة في بريطانيا، في الشكل نفسه تماماً المطبّق في مصر.
وبالفعل، نشر الصحافيّ المصريّ الشهير المقيم في بريطانيا محمّد أبو الغيط، عدداً من الصور له أثناء مروره بمنازل بعض المشاهير في بريطانيا مثل الأديب البريطانيّ الشهير جورج أورويل.
أمّا الإضافة التي قام بها الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ مقارنة بالمبادرات الأجنبيّة والتي قصدها الشنّاوي، فقد أوضحها، قائلاً: "التجربة المصريّة مربوطة بقاعدة بيانات نظراً للثقافة المحدودة للعديد من المصريّين، فالناقد السينمائيّ البارز سمير فريد على سبيل المثال، والذي صمّم الجهاز القوميّ للتنسيق الحضاريّ لافتة باسمه، هو معروف بالنسبة إلى السينمائيّين فقط، لذلك سأكون سعيداً عندما يقوم الشباب بهواتفهم بفحص اللافتة ليتعرّفوا على تاريخ سمير فريد الناقد الذي يفتخر به العالم ولا يعرفه أبناء دولته".