حتّى فترة قصيرة، استند نظام الضوابط والموازين الذي سعت الجهات المعنيّة الأجنبيّة إلى بنائه في سوريا إلى السبل العسكريّة في الدرجة الأولى، لكنّ هذه الجهات، خصوصاً روسيا، باتت تميل بشكل أكبر حاليّاً إلى الوسائل الاقتصاديّة.
على سبيل المثال، يصل جسر جديد البرّ الرئيسيّ الروسيّ بشبه جزيرة القرم، وقد يصبح خطّ النقل الرئيسيّ من روسيا إلى سوريا ويساهم في ترميم البنى التحتيّة في سوريا، بحسب ما قال في شباط/فبراير نائب رئيس مجلس الوزراء في القرم، جورجي مورادوف، في منتدى حول التعاون الروسيّ السوريّ في مجال الأعمال.
وقد افتُتح هذا الجسر، الذي يمتدّ على طول 12 ميلاً والذي بلغت تكلفته 3 مليارات دولار، بالتزامن تقريباً مع حفل أقيم في 14 أيار/مايو من أجل وضع حجر الأساس لموقع روسيّ سوريّ سياحيّ في قرية المنارة في محافظة طرطوس السوريّة. ويحمل هذان التطوّران بعض القواسم المشتركة. ففي كلّ مشروع من هذين المشروعين يشارك شخص يُعتقد أنّه ينتمي إلى دائرة المقرّبين من الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، وقد أدرج اسما هذين الشخصين كليهما في قائمتي الجزاءات الأوروبيّة والأميركيّة. فقد تولّى الملياردير أركادي روتنبرغ، وهو أحد أصدقاء بوتين منذ الطفولة، إدارة مشروع بناء جسر القرم، المعروف أيضاً بجسر مضيق كيرتش. أمّا مشروع المنارة فمرتبط بشركة "ستروي ترانس غاز" للبناء التابعة لرجل الأعمال الروسيّ غينادي تيموشينكو، وهو أيضاً صديق قديم لبوتين.
ويجري العمل أيضاَ على مشاريع أخرى. ففي نيسان/أبريل، في منتدى يالطا الاقتصاديّ الدوليّ، وقّعت القرم مذكّرة إعلان نوايا مع مدينة اللاذقية الساحليّة السوريّة من أجل مشاريع تبلغ قيمتها 62 مليار روبل (997 مليون دولار).
لكنّ الشراكات الروسيّة السوريّة تتخلّلها بعض الثغرات. فسوريا لم تمنح بعد الصادرات الروسيّة معاملة تفضيليّة، وما زال النقص الحاليّ في البنى التحتيّة السوريّة من أجل تخزين السلع ومعالجتها ونقلها إلى سوريا يطرح تحدّياً كبيراً.
وقال ممثّلون عن الحكومة السوريّة لوكالة "آر بي سي" الروسيّة التي تغطّي أخبار الأعمال إنّ الشركات الروسيّة ليست بالضرورة متحمّسة بعد للعمل في سوريا، نظراً إلى حجم السوق الصغير في هذه المرحلة والمخاطر المرتبطة بالعقوبات والتي هي أكبر من الأرباح المحتمل تحقيقها. وقد أجبرت العقوبات المفروضة على سوريا الشركات الكبيرة ذات المصالح الشخصيّة على مواصلة عمليّاتها عبر سلسلة من الوسطاء لتجنّب القيود والالتفاف حولها.
وفي أواخر كانون الثاني/يناير، أعلنت وزارة الطاقة الروسيّة عن توقيع خارطة طريق من أجل إعادة تأهيل منشآت الطاقة في سوريا وتحديثها وبناء منشآت جديدة. ولم تقدّم الوزارة بعد أيّ تفاصيل، لكنّ وسائل الإعلام الروسيّة أشارت إلى أنّ الوثيقة تتضمّن لائحة شركات يُفترض أنّها مستعدّة للمجازفة في العمل في سوريا. ومن بين هذه الشركات شركة "إيفرو بوليس" محدودة المسؤوليّة التي يقال إنّها تخضع لإدارة "طبّاخ الكرملين" وخبير المطاعم يفغيني بريغوجين الذي يرتبط اسمه بمجموعة "فاغنر بي أم سي" الروسيّة الخاصّة شبه العسكريّة المثيرة للجدل. ويُزعم أيضاً أنّ بريغوجين معنّي عن كثب بعمليّات التصيّد الإلكترونيّ الروسيّة.
لقد اضطلعت "ستروي ترانس غاز" بدور بارز في سوريا. ففي أواخر العام 2017، أطلق خبراؤها المرحلة النهائيّة من مشروع بناء معمل معالجة غاز الشمال (GPP-2) بالقرب من الرقّة، وبدأت الشركة بإعادة إعمار مناجم خنيفس والشرقيّة، وهي أكبر مناجم للفوسفات في البلد خارج تدمر. لكن من الصعب معرفة ما إذا كانت شركة تيموشينكو ستتمكّن من إنجاز مشروع بناء موقع المنارة السياحيّ. فالجوّ العسكريّ والسياسيّ اليوم أكثر تعقيداً ممّا كان عليه قبل الحرب.
أمّا قطاع النفط والغاز فتتخلّله مشاكل جمّة. من جهة، بدأ إنتاج النفط بالتراجع قبل فترة طويلة من اندلاع الحرب السوريّة، في ظلّ تداعي البنى التحتيّة المحليّة القديمة. ومن جهة أخرى، تعيق عوامل عدّة عودة نظام الطاقة في سوريا إلى مستويات ما قبل الحرب. ويعزى هذا الأمر جزئيّاً إلى تدهور البنى التحتيّة، وإنمّا أيضاً إلى سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة المدعومة من الولايات المتّحدة على حقول النفط الرئيسيّة واستمرار دول الغرب في معاقبة نظام بشار الأسد اقتصاديّاً من خلال العقوبات ومنع المساعدات.
ولا تزال المناطق الواقعة شرقي سوريا ومنطقتان اثنتان لوقف التصعيد في الشمال والجنوب الغربيّ خارجة عن نطاق سيطرة الأسد. ويمنع ذلك دمشق من استعادة سيادتها من جهة، لكنّه قد يساعد حلفاءها الضعفاء اقتصاديّاً من جهة أخرى. لكنّ الجهود الروسيّة الهادفة إلى التوصّل إلى تسويات في هذه المناطق لا تتطابق مع الموقف الإيرانيّ. وتشارك طهران، شريكة موسكو التكتيكيّة، بشكل فاعل في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في سوريا، ما يثير حنق الولايات المتّحدة وإسرائيل ودول الخليج العربيّ.
وإنّ أيّ تنازلات يقدّمها التحالف الدوليّ الذي تقوده الولايات المتّحدة مرتبطة بتقييد إيران في المنطقة – على سبيل المثال، التفكيك المحتمل لقاعدة الطنف العسكريّة في الحدود السوريّة الأردنيّة العراقيّة، وفتح طريق دمشق-بغداد السريع. ويهمّ موسكو أن تحافظ على اتّفاقاتها مع واشنطن في ما يتعلّق بمنطقة وقف التصعيد في جنوب غرب سوريا من أجل إقناع الولايات المتّحدة بتقليص وجودها في الشرق ومن أجل الحؤول دون نشر الحملة العسكريّة مقاتلين عرب في الأراضي الخاضعة لسيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة – ما قد يخفّض فرص سوريا في دمج أراضيها الشرقيّة.
وهناك مجال للتسوية. فقد انسحبت القوّات الأجنبيّة بالوكالة التي تحظى بدعم إيران من بعض المناطق في سوريا وتوجّهت إلى العراق، واستبدلت القوّات النظاميّة الميليشيات بجنودها في درعا. وفي الوقت نفسه، بدأت الأجهزة الاستخباراتيّة الإيرانيّة بتجنيد سكّان من شرق البلاد في مجموعة شبيهة بحزب الله في سوريا من أجل الحفاظ على نفوذ إيران على الأرض. وقد يؤثّر ذلك على فرص سوريا في التعافي. لكن إذا أرادت روسيا تطبيق خططها الخاصّة المتعلّقة بتعافي سوريا، يتعيّن على موسكو الحرص على استتباب الأمن ما بعد الحرب وإيجاد سبل للحفاظ على نفوذها في دمشق على خلفيّة العلاقات السوريّة الإيرانيّة الوطيدة.