تستعدّ القوات المسلّحة التركية لجولة جديدة من الإقالات في حين تتخبّط للتعافي من حملة التطهير الأولى التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في شهر تموز/يوليو 2016.
أعلن وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي يوم 18 نيسان/أبريل أنّه جرى ضبط خليّة سريّة مكوّنة من 3,000 ضابط وضابط صفّ تربطهم علاقة بالعقل المدبّر لمحاولة الانقلاب، فتح الله كولن، وهو رجل دين سنّي يعيش في المنفى الاختياري في بنسيلفانيا. وتوعّد جانيكلي بطردهم جميعاً.
منذ 18 أيار/مايو، تمّ توقيف 550 ضابطاً وضابط صفّ. وبحسب محققين حكوميين، لجأ قياديو منظمة فتح الله كولن الإرهابية، وهي تسمية تعتمدها أنقرة للإشارة إلى أتباع كولن، إلى استعمال خطوط ثابتة في الأسواق والأكشاك والمقاهي لتجنّب رصدهم أثناء تواصلهم مع مندسّين في المؤسسة العسكرية.
يشدّد المدّعون العامون على أنّ المنظمة لا تزال تتمتّع بحضور بارز في المؤسّسة العسكريّة وتحاول إعادة ترتيب صفوفها على الرغم من فصل 10 آلاف شخص من أتباع كولن المشتبه بهم بعد الانقلاب مباشرة. لكنّ الاتهامات تثير مخاوف جديدة حول قدرة منظمة كولن على التوغّل في بنية تركيا العسكرية، وحول قدرة القوات المسلّحة على التعامل مع جولة جديدة من الإقالات.
تتكتّم أنقرة على تأثير حملة التطهير بينما تكثّف عملياتها العسكرية ضدّ حزب العمال الكردستاني المحظور والمؤسسات التابعة له في تركيا والعراق وسوريا. لكنّ تحليل المونيتور للبيانات الحكومية يشير إلى نقص مُقلق في عدد الجنرالات وضباط الأركان والمشغّلين النخبويين مثل الطيارين والقوات الخاصة، وقد يسوء الوضع أكثر مع جولة جديدة من الإقالات.
نُشر أحدث تقرير مختصر متوفّر للعموم عن المؤسّسة العسكرية التركية في شباط/فبراير 2017 بعد الجولة الأولى من الإقالات التي انطلقت في 27 تموز/يوليو 2016. وتُظهِر المقارنة مع أرقام من آذار/مارس 2016، قبل محاولة الانقلاب، انخفاضاً بنسبة 40% في عدد الجنرالات، من 325 إلى 201 في الجيش والقوة الجوية والبحرية، وتراجعاً بنسبة 20% في عدد الضباط المقلّدين من 32,451 إلى 25,728.
تشير أيضاً إقالة 1,400 ضابط أركان (77% من إجمالي عدد الضباط) وإلغاء نظام ضبّاط الأركان في آب/أغسطس 2016 إلى أنّ هيئة الضباط كانت هدفاً أساسياً لمنظمة كولن في سعي هذه الأخيرة إلى تعزيز نفوذها. يحمل ضبّاط الأركان أعلى الشهادات ويتمتّعون بأكبر الصلاحيات في هيئة الضباط وغالباً ما يُعيّنون في مناصب مهمة في المقرّات الرئيسية ويُمنحون الأولوية لدى اختيار البعثات في الخارج.
لا تشمل الأرقام قوّات الدرك وخفر السواحل التي انفصلت منذ محاولة الانقلاب عن القيادة العسكريّة والتحقت بوزارة الداخليّة. منذ شباط/فبراير 2017، تابعت الأكاديميّات العسكريّة ومدارس الضباط تخريج الطلاب، ويقارب عدد الضباط الآن 27 ألفاً وعدد ضباط الصف 67 ألفاً. لكن على الرغم من هذه الإضافات الجديدة، يبقى العدد الإجمالي أقلّ ممّا كان عليه قبل الانقلاب.
وإذا غُصنا في تركيبة القوّات المُقالة بدءاً من كانون الثاني/يناير 2018، يمكننا التوصّل إلى تحليلات إضافيّة.
تأثرت النخبة القيادية أكثر من غيرها بحملات التطهير. من بين 325 جنرالاً وأميرالاً في الجيش التركي والبحرية والقوات الجوية، تمّ تسريح نصفهم تقريباً (150). شمل هذا العدد جنرالين برتبة أربع نجوم، وتسعة فرقاء، و30 لواء ولواء بحرياً، و126 عميداً وعميداً بحرياً. بشكل عام، تمّ تقريباً تسريح 44% من جنرالات الجيش و42% من جنرالات القوّات الجوّيّة و58% من الأميرالات رسمياً. كما أرغم المجلس العسكري الأعلى 586 عقيداً على التقاعد في 23 آب/أغسطس 2016.
يُعتبر الطيّارون المقاتلون في القوّات الجويّة من مجموعات الضباط الأكثر تضرّراً. قبل الانقلاب، كان سلاح الجوّ التركي يعيّن طيّارَين لكلّ من الطائرات القتالية التي يبلغ عددها 320 طائرة، بما في ذلك 240 طائرة من طراز أف-16، لكنّ طرد 280 طياراً قلّل هذه النسبة إلى أقلّ من طيّار واحد لكلّ طائرة اعتباراً من أيلول/سبتمبر 2017 (تشغّل القوة الجوية أيضاً 90 طائرة نقل وسبع طائرات وقود و105 طائرة تدريب). والآن مع عودة 400 طيار جاهز للقتال إلى القائمة، ارتفعت هذه النسبة إلى 1.2، لكنّ العودة إلى نموذج القتال ما قبل الانقلاب قد تستغرق حتى ثلاث سنوات أخرى من التجنيد.
يواجه طيّارو مروحيات الجيش حالة مماثلة إذ فُصِل حوالي 40 منهم، وأدّى هذا التخفيض إلى إثقال كاهل طياري سلاح الجو والجيش الذين يواجهون ضغوطاً كبيرة في محاربة حزب العمال الكردستاني، ويقومون بدوريات في المجال الجوي التركي وبعمليات عبر الحدود. وتُعتبر سرعة فترات التناوب وأعباء العمل المضاعفة وزيادة التعب والتوتر أولى نتائج انخفاض نسبة الطيارين إلى الطائرات.
عانت وحدات القوات الخاصة، مثل وحدة الهجوم تحت الماء التابعة للقوات البحرية وطاقم البحث والإنقاذ القتالي التابع للقوات الجوية، عدد إقالات غير متناسق هي أيضاً. فقد تمّ اعتقال الكثير من قادة الكتائب النخبوية وقادة الفرق وسُرّحوا بتهمة المشاركة في الانقلاب. كذلك، صدرت تقارير عن إقالة عدد كبير من طياري المروحيات، وضباط وضباط صفّ آخرين يعملون ضمن فرق البحث والإنقاذ النخبوية في القوات المسلّحة التركية.
تشير حملات التطهير إلى جهود تجنيد مركّزة جداً ومدروسة من جانب أتباع كولن. سعت المنظمة أوّلاً على ما يبدو إلى كسب موطئ قدم في نظام إدارة طاقم القوات المسلّحة للتحكّم بالترقيات والتعيينات. ثمّ استهدفت منظمة كولن نظام ضباط الأركان للتسلّل إلى مقرّاتهم، وبعد ذلك الطيارين وقادة وحدات العمليات الخاصّة للسيطرة على الطواقم العسكرية المهمة المرتبطة مباشرة بالفعالية التشغيلية؛ وثمّ الاستخبارات العسكرية، ونظامي القضاء والصحة لتسويق أجندتها المخبأة. لذا إنّ تطهير الصفوف العليا للمؤسسة العسكرية أنجع من مطاردة الجنود العاديين.
للتعويض عن النقص، سعت القوّات المسلّحة التركيّة إلى تجنيد المدنيّين مباشرة. لكن بطبيعة الحال، إنّ ملء الفراغات بسرعة بالمدنيين يثير المخاوف حول النوعية، والانضباط، والمهنية والروح الجماعية داخل المؤسسة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، ينتظر المئات من الطاقم العسكري الذين أوقفوا عن العمل مؤقتاً نتيجة التحقيقات، وهذا يُعتبر عاملاً آخر يصعّب إدارة النقص في عدد الجنود.
في الجيش، طالت حملات التطهير بأغلبيتها مقرّات القيادة العامة وقيادة الخدمة في أنقرة، والفيالق والألوية في اسطنبول وأنقرة، لأنها شاركت بشكل كبير في انقلاب 15 تموز/يوليو. لم تتأثر كثيراً قيادة الجيش الثاني في ملطية المسؤولة عن محاربة الإرهاب في منطقة الجنوب الشرقي، ولا الجنود المشاركون في العمليات التركية بسوريا، بحملات التطهير حتى الآن، ولكن يبرز احتمال كبير بأن يحصل ذلك في وقت لاحق. ويجسّد هذا النهج سياسة الحكومة العمليّة باجتثاث أتباع كولن من المؤسسة العسكرية. وفي الوقت الراهن، ينشط 20 فيلقاً من قيادة الجيش الثاني تحت إمرة قادة جُدُد.
تُعتبر البحرية القيادة الأقلّ تأثراً، وكانت معظم الإقالات في صفوف مكاتب القيادة في أنقرة أو الطواقم التي تخدم في المقرّات الفرعية.
أمّا القوات الجوية، فعلى الرغم من تأقلمها الظاهري مع تداعيات الإقالات، يبدو أنّ معظم وحداتها النخبوية ستحتاج إلى ثلاث سنوات إضافية على الأقلّ للعودة إلى مستويات ما قبل الانقلاب.
بعد محاولة الانقلاب، أسّست تركيا جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع، وهي تقدّم برامج المرحلة الجامعية الأولى والدراسات العليا لملء المناصب الشاغرة. لكنّ هذه البرامج غير مناسِبة لتأمين رأس المال الفكري، وتحديداً على مستوى الدراسات العليا، الذي تحتاج إليه المؤسسة العسكرية للتغيّرات التي تختبرها.
مرّ عامان على محاولة الانقلاب، لكنّ طريق التعافي الكامل لا يزال طويلاً أمام القوات المسلّحة التركية.
يُعتبر برنامج الماجستير في دراسات الحرب باللغة الإنكليزية الذي سيُعطى بدءاً من فصل الخريف في جامعة الدفاع الوطني في حيّ ليفينت باسطنبول خطوة على الطريق الصحيح.
انهمكت المؤسسة العسكرية التركية مؤخراً بعمليات محاربة الإرهاب داخل تركيا وخارجها، بما في ذلك انشغالها بمهام حفظ السلام في أفغانستان والبلقان، وجهود إظهار القوة في قطر، والصومال، وجزيرة سواكن في السودان، وبحر إيجة وشرق البحر الأبيض المتوسط. كما أنّ مؤسّساتها أُرهقت بسبب الإصلاحات المتهوّرة وحملات التطهير الواسعة المستمرّة منذ الانقلاب.
أدّى عدد كبير من العوامل الأخرى إلى تفاقم صراعات القوة ونقص رأس المال الفكري داخل الجيش، بما في ذلك التوجيهات السياسية غير المتّسقة بشأن الإصلاح العسكري، وعدم التكامل المدني العسكري، والغموض المتعلق بوضع هيئة الأركان العامة التركية، والخلافات بين هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع وانتقال تركيا المستمرّ من نظام برلماني إلى رئاسة تنفيذية. والأسوأ من ذلك أنّ جميع هذه التحديات المؤسسّية تتزامن مع الأزمات التي لا تنتهي بين تركيا وحلفائها الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
بالطبع، إذا وفى جانيكلي بوعده بتسريح 3,000 جندي آخر، قد يجد الجيش التركي نفسه في وضع أصعب بكثير لجهة إقامة توازن مثالي بين اجتثاث أتباع كولن من المؤسسة العسكرية والفعالية التشغيلية.