نادرًا ما يمرّ يوم في تركيا بدون أن تجاهر الصحف بقصّة نجاح أخرى في صناعة الدفاع. ففي العامين الماضيين بشكل خاصّ، أصبح قطاعا الدفاع والطيران مادّة دعائيّة دسمة في خطاب حكومي يشيد بالقوميّة وحماية مصالح المواطنين في جميع المجالات تقريبًا.
لكن وسط الكمّ الهائل من الثناء المبالغ فيه، تبرز أيضًا تقييمات واقعيّة لوضع صناعة الدفاع التركية. أصدر اتّحاد صناعة الدّفاع وصناعة الطيران والفضاء التركي الأسبوع الماضي تقرير الأداء القطاعي لعام 2017، الذي يشكّل إلى حدّ ما بطاقة علامات صناعة الدفاع التركيّة على مدى العام الماضي. يصوّر المستند عامًا تكلّل بالنجاح بشكل عام، لكنّه يشير إلى أنّ القطاع يجب أن يركّز الآن على النموّ المستدام، راسمًا صورة مستقبليّة يطبعها تفاؤل حذر.
وبحسب التقرير – في مجموعة من الأرقام الفرديّة التي قدّمها الأعضاء - بلغ معدّل المبيعات الكلّيّة في القطاع حوالي 6.7 مليارات دولار في العام الماضي، بزيادة نسبتها 12% عن العام 2016. وبشكل تفصيلي، أتت الحصّة الأكبر من بيع المركبات البرية والأنظمة الأرضيّة مع 2.4 مليارات دولار تقريبًا، تليها منتجات الطيران العسكري مع 1.13 مليارات دولار؛ ثمّ الأسلحة، والذخائر والصواريخ مع 828 مليون دولار؛ وبعدها منتجات الطيران المدني مع 650 مليون دولار؛ والمنتجات البحريّة مع 569 مليون دولار؛ والصيانة العسكريّة مع 171 مليون دولار؛ واللوجستيّات مع 134 مليون دولار. وأدرجت 650 مليون دولار أخرى في فئة "مبيعات أخرى".
أمّا قيمة الصادرات فبلغت 1.82 مليار دولار، في انخفاض بنسبة 6.6% عن العام 2016، ويشمل ذلك 684 مليون دولار من المنتجات النهائيّة التي بيعت لمستخدمين نهائيّين، مع بيع باقي المنتجات الوسيطة لشركات أجنبيّة.
لا يشير التقرير إلى كميّة الصادرات التي شكّلت جزءًا من اتّفاقات تعويضيّة مرتبطة بالمشتريات الحكوميّة من المصنّعين الأجانب. وإذا اعتبرنا أنّ جميع المبيعات للشركات الأجنبيّة تدخل في إطار الاتّفاقات التعويضيّة، فمن المفترض أن يكون مبلغ 684 مليون دولار المتبقّي – أو 37% من عائدات التصدير – قد نتج من صفقات جرى الفوز بها في بيئة تنافسيّة. ووفقًا لهذا الرقم، ما زالت صناعة الدفاع التركيّة ضعيفة لجهة القدرة التنافسيّة الدوليّة.
ومع التشديد على أنّ الصادرات تتباطأ منذ العام 2014، يلفت التقرير إلى أنّ القطاع بلغ مرحلة من النمو المستدام مع وصول المبيعات المحلّيّة - إلى الجيش التركي بشكل رئيسي - إلى نقطة التشبّع. وإلى جانب مبيعات الاتّفاقات التعويضيّة التقليديّة للشركات الأوروبيّة والأميركيّة، يشدّد التقرير على أهميّة تعزيز المبيعات للشرق الأوسط، وجمهوريّات الترك في آسيا الوسطى ومنطقة جنوب آسيا والمحيط الهادئ.
اعتبارًا من نهاية العام 2017، وظّف القطاع 44,740 شخصًا، في زيادة نسبتها 30% عن العام 2016، بحسب ما ورد في التقرير. وتدلّ الزيادة، التي توازي 10,000 وظيفة جديدة تقريبًا، على العدد الكبير من الشركات التركيّة التي انتقلت من قطاعات أخرى إلى صناعة الدفاع، مدفوعة بالرياح السياسيّة والحوافز الاقتصاديّة.
ويلحظ التقرير أنّ الواردات في القطاع في تزايد، فهي بلغت 1.54 مليار دولار في العام 2017، بزيادة نسبتها 20% مقارنة بالعام السابق. وتنبع الزيادة الكبيرة في الواردات من المكوّنات الأجنبيّة اللّازمة للإنتاج المحلّي المتزايد وحاجة الشركات لتخزين بعض المنتجات في مواجهة حالات الحظر التجاري السّرّي من قبل الولايات المتّحدة والدول الأوروبيّة.
تأتي نصف واردات القطاع من أوروبا و35% من الولايات المتّحدة، ما يبيّن إلى أيّ درجة ما زالت صناعة الدفاع التركيّة تعتمد على التكنولوجيا الغربيّة، بما في ذلك المنتجات الوسيطة والنظم الفرعيّة، على الرّغم من زهو أنقرة الوطني والقومي المبالغ فيه. ولا بدّ أنّ حصّة الغرب من الواردات البالغة 85% تخيّب آمال روسيا التي سعت إلى الاستفادة من تدهور علاقات تركيا مع حلفائها في الناتو.
مع هذا الاعتماد الكبير على الواردات من الولايات المتّحدة، تتابع الشركات العاملة في صناعة الدفاع في تركيا بقلق الدعوات المتزايدة في الكونغرس إلى تقليص المبيعات العسكريّة لتركيا.
وفي جانب سلبيّ آخر، يشير التقرير إلى فشل الجهود الرامية إلى عكس هجرة الأدمغة عبر جذب المغتربين الأتراك من أصحاب المؤهّلات للعودة إلى بلدهم، مشدّدًا على حاجة القطاع الماسّة إلى عاملين في مجال التكنولوجيا يكونون على درجة عالية من الكفاءة.
وفي تعليق حول مستقبل القطاع، قال للمونيتور الخبير في صناعة الدفاع أردا مولود أوغلو إنّ زيادة المبيعات على الرّغم من التدهور العام في الاقتصاد التركي كانت جديرة بالثناء، لكنّه شدّد على أنّ "الصعوبات تبقى موجودة بوضوح لجهة الصادرات التي تكتسب أهميّة حاسمة للنموّ المستدام".
ويقول مولود أوغلو إنّ انخفاض الصادرات هو نتيجة اتّجاهِ تباطؤ منذ العام 2014، مشيرًا إلى مجموعة من العوامل. وأوضح أنّ الحملة العسكريّة التركيّة في شمال سوريا والعمليّات الأمنيّة المستمرّة في الداخل أدّت إلى تزايد الاحتياجات العسكريّة، ما عزّز حركة القطاع. وقال إنّ "أولويّة الإنتاج تتركّز على تلبية الطلب المحلي، في حين تبقى تنمية الأعمال التجاريّة وقدرات التسويق الموجّهة نحو التصدير غير كافية، وتتواصل مشكلة الإنتاجيّة في القطاع؛ وبالتالي تبقى الصادرات ما دون المستوى المطلوب".
ويضيف قائلاً إنّ "الزيادة التي فاقت التوقّعات في نسبة المبيعات تشكّل أخبارًا سعيدة على الرغم من كلّ شيء. وأعتقد أنّ كميّة الصادرات ستزداد في العام 2018، نظرًا إلى العقود المبرمة مع قطر. وتبدو الصورة إيجابيّة على المدى البعيد".
في شهر آذار/مارس، أبرمت الشركات التركيّة عقودًا بقيمة 400 مليون دولار تقريبًا مع نظيراتها القطريّة في خلال معرض ومؤتمر الدوحة الدولي للدفاع البحري. وتشمل الصفقات بيع طائرات بدون طيار قادرة على حمل أسلحة، ومركبات مدرّعة، وقوارب هجوميّة، وقوارب للعمليّات الخاصّة وأنظمة مراقبة الكترونية، وغير ذلك.
وإنّ احتمال إبرام صفقات بيع مع باكستان يرفع الآمال أيضًا بأن ينعكس تراجع الصادرات هذا العام. تشمل إحدى الصفقات الكبرى المرتبطة بخطّ الأنابيب بيع 30 مروحيّة هجوميّة من طراز "تي 129 اتاك" لباكستان التي أبدت اهتمامًا أيضًا بأن تشتري من تركيا أربع طرادات حربيّة مضادّة للغواصات من طراز "ملغم" فئة "أدا".
شدّد خبير في صناعة الدفاع في أنقرة لم يشأ الكشف عن اسمه على أنّ الاكتفاء الذاتي والاستدامة ضروريّان لنموّ القطاع. وقال المصدر إنّ "تركيا لا يمكن أن تصبح قوّة إقليميّة كبرى من دون ردع عسكري، ولكنّها في الوقت عينه لا تستطيع أن تثق بمورّدي الأسلحة من الحلفاء الغربيّين التقليديّين. لذلك، ومن أجل تحسين قوّة الردع، يجب أن تعتمد تركيا على قدراتها الخاصّة في تطوير الأسلحة وأن تسعى خلف جميع الفرص للتصدير [بهدف تحقيق الاستدامة]. فبدون الاكتفاء الذاتي والاستدامة، لا يمكن للقطاع أن ينمو بالتغطرس الأجوف فحسب".
بالفعل، يبدو أنّ الاكتفاء الذاتي في مجال الدفاع هو دافع أساسي في الجهود الرامية إلى توسيع الصناعة، إلى جانب أهداف أخرى كالمكاسب السياسيّة، والمكانة الدوليّة والعظمة السياسيّة للاستهلاك المحلّي.
إلّا أنّ أنقرة ما زالت تفتقر إلى رؤية سياسيّة واضحة المعالم أو خارطة طريق حول كيفيّة إدارة مرحلة الاستدامة بفاعليّة. يقف عدد من الأمور السلبيّة الخطيرة في طريق التقدّم، ما يدعو إلى حلول عاجلة. فضلاً عن التحديات المؤسّسيّة داخل القطاع، إنّ التدخّل السياسي الشديد والمحسوبيّة يعيقان التنميةَ القائمة على الجدارة. ويبقى التنسيق متردّيًا بين البيروقراطيّة العسكريّة والمدنيّة، بالإضافة إلى التعاون غير الكافي بين القطاع، وصناع السياسات والجامعات. وبسبب هيمنة الشركات الكبيرة المدعومة من الدولة، لا تستطيع الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم أن تنجو، وذلك، مع إضافته إلى مشكلة النقص في رأس المال البشري، له أثر قاتل للابتكار.