إنّ الصراع السوري دليل على أنّ الشعور بالنصر بات أكثر أهمية من النصر الفعلي في بعض الحروب الحديثة، علمًا أنّ الضربات التي قادتها الولايات المتحدة في 14 نيسان/أبريل على سوريا، وتحدّي موسكو ودمشق لأثرها المزعوم، هما عاملان يحاول الطرفان حفظ ماء الوجه من خلالهما.
وفي حين أتى الهجوم انتقامًا لاستخدام سوريا المزعوم للأسلحة الكيميائيّة، تركت الضربة انطباعًا بأنّ الهجوم مخطّط ومنظّم، والوقت وحده كفيل بأن يبيّن ما إذا كانت روسيا والولايات المتحدة قد نجحتا في تأسيس عامل ردع للمستقبل.
بعد وقت قصير من الهجمات، زعمت الجيوش السورية والروسية أنّ أنظمة الدفاع الجوي التي تعود إلى الحقبة السوفيتية اعترضت بكفاءة الصواريخ "الجميلة والجديدة والذكية" التي تحدّث عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي أنظمة قديمة يبدو أنها كانت فعّالة لدرجة أنّها اعترضت صواريخ أمريكيّة أُطلقت فوق مناطق يقول البنتاغون إنّها لم تكن مستهدفة.
وبعد الضربات، عقد الجنرال سيرغي رودسكوي، رئيس مديريّة العمليّات في هيئة الأركان الروسية، جلسة إعلاميّة زعم في خلالها أنه من أصل 103 صواريخ كروز أطلِقت على سوريا، تم اعتراض 71. وبحسب رودسكوي، ساعدت أنظمة الدفاع الجوي S-125 وS-200 وBuk وKvadrat وOsa السورية - التي تم إنتاجها قبل أكثر من 40 عامًا - على صدّ الهجوم. أمّا وزارة الدفاع الروسيّة فقالت إنّ الولايات المتحدة وحلفاءها استهدفوا ما يصل إلى سبعة مطارات عسكرية، بالإضافة إلى المنشآت التي يُعتقد أنها مرتبطة بالبرنامج الكيميائي العسكري السوري المزعوم.
لكن ما أثار الشكوك حول مصداقيّة الوزارة هو أنّها نكرت مشاركة فرنسا في الضربات، في حين قالت فرنسا إنّها وفّرت خمس طائرات داسو رافال، وفرقاطات D653 لانغدوك FREMM متعدّدة الأغراض، وأربع طائرات ميراج 2000-5 متعدّدة المهام، واثنين من أنظمة الإنذار المبكر والتحكم المحمولة جوًا (AWACS) وست طائرات للتزود بالوقود من طراز КС-135F.
تجدر الإشارة إلى وجود الكثير من الخبراء العسكريّين الروس الذين شكّكوا في كفاءة أنظمة الدفاع الجوي السوفيتيّة وقدرتها على صدّ ضربات أمريكا وحلفائها. وفي جلسة إعلاميّة في وزارة الدفاع يوم 16 نيسان/أبريل، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيغور كوناشنكوف عن تعديل مهم، وإن كان طفيفًا، في تصريحات موسكو السابقة، فاعترف باستخدام نظام الدفاع الجوي الروسي الصنع من طراز Pantsir-S1 الذي تم تقديمه لسوريا منذ فترة، والذي صُمِّم خصّيصًا لاعتراض صواريخ كروز والأهداف الجوية التي لا تحلّق عاليًا، بما في ذلك الطائرات بدون طيّار. وبحسب كوناشنكوف، فقد تم استخدام 112 قذيفة دفاع جوي لصدّ الهجمات التي قادتها الولايات المتّحدة. وقد أظهر جهاز S-200 أدنى معدل كفاءة، بحيث أطلق ثمانية صواريخ ولم يصل إلى أيّ أهداف نظرًا إلى أنّه مصمّم لضرب الطّائرات أساسًا.
وكمثال على كفاءة S-200 لدى استهدافه الطائرات، ألمح كوناشنكوف إلى عمليّة إسقاط طائرة F-16 إسرائيلية في 10 شباط/فبراير الماضي. "أسقط هذا النظام [طائرة] مقاتلة تابعة لبلد مجاور بعد أن حاولت هذه الطائرة خرق المجال الجوي للجمهورية العربية السورية".
من هذا المنطلق، تطرح الروايتان الرسميتان الروسية والسورية عدة أسئلة. أولاً، لا يوجد أي دليل بالصورة أو الفيديو على اعتراض هذا العدد الكبير من الصواريخ. وتشير اللقطات إلى أنّ المطارات العسكريّة التي زُعم أنها استُهدِفت وتمّ الدفاع عنها بنجاح، ربما لم تكن مستهدفة في المقام الأول. ثانيًا، إنّ صورة وزارة الدفاع السوريّة التي يُزعم أنها تعرض حطام الصواريخ التي تم إطلاقها، لا يمكن اعتبارها دليلاً على أي شيء نظرًا إلى صعوبة التمييز بين حطام صاروخ كروز تمكّن من الوصول إلى هدفه وحطام صاروخ لم يصل إلى هدفه المحدَّد.
وفي حين يبدو غريبًا ادّعاء الولايات المتّحدة بإطلاق 76 صاروخًا، يبقى من الصعب التحقق من صحّة ادعاءات روسيا. ومن الطبيعي وجود معلومات متضاربة أثناء المعارك.
وقد نفى كل من البنتاغون وترامب أن تكون الدفاعات الجوية السورية أو الروسية قد أسقطت أيّ صواريخ تابعة لأمريكا أو للدول الحليفة. وقال الجنرال كينيث ماكنزي، مدير هيئة الأركان العسكرية الأمريكية المشتركة، إنّ السوريّين "أطلقوا صواريخ أرض جو على مسار باليستي" و"حدثت معظم عمليات الإطلاق بعد انتهاء ضربتنا". أي أنّ واشنطن ألمحت إلى أنّ دمشق أطلقت النار في الهواء لمجرّد أن تروّج في ما بعد حكاية تصدّيها للهجمات الأمريكية.
وفي اليوم التالي للهجمات، اتّهمت المتحدّثة باسم البنتاغون دانا وايت روسيا بإطلاق "حملة تضليل"، وأضافت: "لقد زاد [نشاط] المروجين الالكترونيّين الروس (trolls) بنسبة 2,000% في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في الرواية الأمريكية يتعلق بعدد الصواريخ المستخدمة لضرب هدف واحد فقط من الأهداف الثلاثة المذكورة - أي مباني مركز برزة للبحوث والتطوير الذي دمر بالكامل في دمشق، والذي تقول الولايات المتحدة إنه تم استخدامه في عمليات البحث والتطوير والإنتاج المتعلقة بالأسلحة الكيميائيّة. من الناحية النظرية، كان من المفترض بصواريخ كروز الـ76 التي قال الجيش الأمريكي إنه أطلقها أن تكتسح الدفاعات الجوية السورية؛ أي أنّ الولايات المتحدة كانت تتحضّر لاحتمال أن يتم إحباط جزء معين من صواريخها؛ وإلا فلما كانت أطلقت أكثر من ستة صواريخ. لكن الرواية الأمريكية الرسمية هي أنه لم يتم اعتراض أي صاروخ. وهذا يعني أنّ حُفَر القذائف يجب أن تكون موجودة حول الموقع، لكن لا يمكن رؤية أي منها في الصور، علما أن الرقم 76 رقم يمكن أن يخفي عدد الصواريخ التي قد يكون تم تشويشها أو اعتراضها. في نيسان/أبريل 2017، عندما صرحت وزارة الدفاع الروسية بأن 23 صاروخًا أمريكيًا فقط قد وصل إلى قاعدة شعيرات الجوية، ساعدت الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية في دحض التصريح إذ أظهرت الصور 44 حفرة، مع أهداف تم استهدافها مرتين.
بعبارة أخرى، في حين يبدو غريبًا ادعاء الولايات المتحدة بإطلاق 76 صاروخًا، يبقى من الصعب التحقق من صحة ادعاءات روسيا. ومن الطبيعي وجود معلومات متضاربة أثناء المعارك.
ولكن في الضربات التي تقودها الولايات المتحدة على سوريا، تبرز عناصر هامة تستحقّ اهتمامًا خاصًا. فقد قالت معظم وسائل الإعلام إن سوريا نقلت طائراتها لتغطية الموظفين الإقليميين وإجلائهم. وذكرت صحيفة كوميرسانت أن الجيش الروسي كان يستعد لضربات صاروخية بقيادة الولايات المتحدة منذ أكثر من أسبوع. في خلال هذا الوقت، أقيمت محادثات عبر قنوات خلفية حول الأهداف المحددة التي كان التحالف الغربي يتطلع إليها بالإضافة إلى تنسيق مع القوات السورية التي تم تدريبها لمواجهة الهجوم.
بغض النظر عن الخلل الذي يمكن أن يشيب الدفاعات الجوية السوفيتية القديمة - والتي عزز المتخصصون الروس قدراتها القتالية منذ بدء الحملة الروسية في سوريا في عام 2015 – فهي ليست بدفاعات عديمة الفائدة تمامًا. ولقد أثبتت كفاءتها في تدمير صواريخ كروز في الماضي - على سبيل المثال في يوغوسلافيا.
في سوريا، يبدو أنّ الطرف المدافع قد عرف الأهداف والوقت التقريبي للضربات وكان يتلقّى معلومات من أجهزة الكشف الراديويّة على الأرض وأنظمة الإنذار المبكر المحمولة جوًا، ما يجعل الضربات والاعتراضات تبدو وكأنّها تدريبات عسكريّة، مع درجة معقولة من الارتجال بين الطرفين في نوع من الاتفاق الضمني. في هذا الصدد، يجب تلقّي التقارير التي نُشِرَت الأسبوع الماضي عن لعبة القط والفأر المزعومة بين الغوّاصات الروسيّة والبريطانيّة - والتي بدت كقصّة شيّقة جاسوسيّة – بدرجة من الحذر.
مارس كلّ من الولايات المتحدة وحلفائها التنسيق العسكري وأظهروا أنهم قادرون على تدمير أهداف مختلفة من منصات إطلاق مختلفة بأنواع مختلفة من الصواريخ. وكانت بعض الصواريخ بالفعل "جديدة" - وتم اختبارها في المعارك للمرة الأولى - مثل صواريخ كروز الفرنسية MdCN والصواريخ الأمريكية AGM-158B JASSM-ER. وإن الوقت وحده كفيل بكشف ما إذا كان كل هذا سيخدم كرادع للتحرّكات الروسيّة والسوريّة - أم سيزيد من رغبتهم في خوض سباق تسلّح إقليمي.