بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، تداعى النظام التعليمي في البلاد وارتفعت معدلات الأمية بشكل جنوني. تحولت الجامعات إلى ساحات قتال طائفية وأجبر العنف الممنهج - بما في ذلك الضرب والاغتصاب والتهديد بالقتل - الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على الخروج من حرم الجامعة. مع تراجع إمكانيات الدولة في تقديم التعليم العالي، أنشأ المانحون من القطاع الخاص مؤسسات بديلة، غالباً ما طغى عليها طابع طائفي وديني، كما تدخلت الجهات الفاعلة الأجنبية لملء الفراغ.
قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، تحسنت مؤشرات التعليم في العراق الغني بالنفط والذي يسيطر عليه حزب البعث، على غرار ما حدث في البلدان المتوسطة الدخل الأخرى وحتى أنّ التحسّن في العراق كان ملحوظاً أكثر بعد. فتحت الجامعة الأولى في البلاد، جامعة بغداد، أبوابها في عام 1957. جعلت الحكومة التعليم مجانياً وإلزامياً على جميع المستويات في عام 1968. وفي عام 1977، أصبح القضاء على الأمية ملزماً قانوناً. بدا الحافز التنموي خير حافز، وبحلول عام 1980، كان العراق قد توصّل إلى معدلات التحاق شبه شاملة بالمدارس الابتدائية.
لكنّ الإنجازات التعليمية تباطأت مع حرب صدام حسين مع إيران التي دامت ثمانية أعوام في الثمانينيات ومع العقوبات التي فرضها الغرب عليه بعد غزوه الكويت في التسعينيات.
مع حلول عام 2000، استقرّ معدّل معرفة القراءة والكتابة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً عند 84،8%، متخطياً قليلاً نظيره في مصر المجاورة. تقلّصت الثغرة بين الجنسين أيضاً: فوصلت معدلات التحصيل العلمي لدى النساء إلى 80،5% في عام 2000، علماً أنّ مصر لم تحقّق هذا الرقم قبل عام 2006. في الوقت نفسه، أدّى تراجع الاستثمار في القطاع التعليمي في دولة تعاني من أزمة مالية إلى بنية تحتية مترهّلة وقديمة.
على الرغم من سيئات النظام البعثي، أدّى انهياره في عام 2003 واستبداله بحكومة اختارتها الولايات المتحدة إلى زعزعة النظام التعليمي في البلاد. وقد تم تعيين ضباط أمريكيين من ذوي الخبرة لتولّي شؤون التعليم العالي ولكنهم لم يفهموا تعقيدات الحفاظ على السلام بين الطوائف. أدى قانون اجتثاث البعث عام 2003 إلى طرد الآلاف من المعلمين وأساتذة الجامعات الذين كانوا أعضاء في الحزب. كما أن مقتل رئيس جامعة بغداد بعد أيام من تمرير هذا القانون كان بمثابة نذير شؤم. في السنوات اللاحقة، تطرّقت الميليشيات المحلية والفصائل السياسية المتنافسة إلى قانون اجتثاث البعث لإحكام السيطرة على التعليم.
ساءت الأوضاع عام 2014 مع التقدّم السريع للدولة الإسلامية التي وضعت يدها على الجامعات الحكومية البارزة بما فيها جامعة الموصل التي تُعتبر ثاني أكبر جامعة في العراق، كما أحرق التنظيم آلاف الكتب وألغى اختصاصات وأحرق مبانٍ.
على الرغم من عدم وجود أرقام شاملة، إلّا أنّ التقديرات تشير إلى أنّ مئات أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العراقية اغتيلوا في العقد الماضي. أرغمت الميليشيات المحلية التي كانت تسيطر على حرم الجامعات الطالبات والمعلمات على وضع الحجاب. طلبت العصابات المسلّحة من المؤسسات تصديق شهاداتها بأيّ ثمن، ففقد نظام الاعتماد التعليمي قيمته الباقية.
على الرغم من قلّة الإحصاءات الموثوقة في مجال التعليم العالي، يظهر معدّل معرفة القراءة والكتابة الكارثة التعليمية المتبيّنة في العراق. ووفقاً لبيانات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، إنّ 3،2 مليون من مجموع الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عاماً كانوا أميين في عام 2013، ويعكس هذا الرقم زيادة بواقع 2،4 مليون شخص منذ عام 2000. لا يتقن سوى نصف شباب العراق القراءة أو الكتابة في الوقت الحاضر، بالمقارنة مع إلمام 85% منهم بالقراءة والكتابة في عام 2000.
أدى انهيار الدعم الحكومي للتعليم إلى نشوء قطاع جامعي خاص مترامي الأطراف. تشمل سياسة التعليم الجديدة طفرة في بناء الكليات الخاصة الشيعية المنحى، مثل جامعة أهل البيت في النجف التي تدرّس منهجاً في العلوم الإسلامية والقانون كان ممنوعاً في عهد النظام البعثي. ليست إيران الوحيدة التي تموّل هذه الجامعات الدينية، وإنّما تحظى هذه الأخيرة أيضاً بتمويل من شبكات شيعية عابرة للحدود غالباً ما تتخذ من العراق والكويت ولبنان وبريطانيا مقرا ًلها.
في أواخر عام 2000، أُنشئت جامعات خاصة أخرى تركّز على العلوم الصلبة مثل الهندسة والطبّ. تقدّم هذه الكليات الخدمات التعليمية للطبقة الوسطى التائقة إلى تفادي العنف والكراهية الطائفية التي تطغى على النظام التعليمي بشكل عام.
إلى جانب أصحاب المبادرات في البلاد، استثمرت قوى أجنبية في القطاع التعليمي وكانت الولايات المتحدة أوّلها إذ لعبت دوراً مباشراً في تأمين التعليم مع افتتاح الجامعة الأمريكية في العراق عام 2007.
تضمّ الجامعة الأمريكية في العراق حالياً 1600 طالب من كامل البلاد في اختصاصات اجتماعية وعلمية صلبة وفي مجال إدارة الأعمال. أُنشئت الجامعة لتدريب النخبة المستقبلية في البلاد وفق نموذج الجامعتين الأمريكيتين في القاهرة وبيروت وبحسب شعار "كُنْ طالباً اليوم وقائداً غداً". رمزياً، لم تُبنَ الجامعة في بغداد وإنما في ضواحي السليمانية، وهي مدينة آمنة ومزدهرة نسبياً في إقليم كردستان. تجتمع فيها مصالح واشنطن وشريحة من النخبة الكردية ذات التوجه الغربي.
في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تركّز فيه على إقليم كردستان، كانت عين إيران على جارتها. بعد تأخّر طال، وُضع حجر الأساس لجامعة المصطفى الأمين من تمويل وإدارة جامعة آزاد الإسلامية في إيران في 14 آب/أغسطس. من المتوقع أن تضمّ الجامعة ثلاث كليات تركّز على العلوم الإسلامية بما فيها القانون والأدب واللاهوت. تسعى الجامعة إلى استقطاب 1،350 طالباً مع توقّع التحاق 450 طالب بها في عامها الأول. في 27 تموز/يوليو، توصّلت جامعة طهران للعلوم الطبية إلى اتفاق لبناء الجامعة الطبية الأجنبية الأولى في العراق.
تسجّل جامعة المصطفى الأمين انتصاراً واضحاً لجامعة آزاد الإسلامية ولطموحات إيران للقوة الناعمة في المنطقة. على الرغم من أنّ إيران جارة العراق ووقّعت مع حكومة بغداد أكثر من 50 مذكرة تفاهم أكاديمية وعلمية، التحق فقط 3 آلاف طالب عراقي بجامعات إيرانية.
بالفعل، كانت طموحات إيران في التوسّع الأكاديمي في الخارج مضبوطة حتى الآن. لدى جامعة آزاد الإسلامية فروع أجنبية عديدة وأوّلها تأسّس عندما كان مؤسسها الراحل أكبر هاشمي رفسجناني رئيس إيران (1989 – 1997). في عام 1990، افتُتح الحرم الجامعي الأول غير الإيراني لجامعة آزاد الإسلامية في بيروت وبعدها في دبي عام 1995.
بعد أن خسر رفسنجاني الرئاسة عام 1997، واجهت جامعة آزاد الإسلامية صعوبة متزايدة في التوسّع في الخارج. في عام 2004، بنت الجامعة مركزاً في أكسفورد ولم تستطع إقناع الحكومة الأفعانية بالموافقة على فرع في كابل قبل عام 2010. وتأمل جامعة آزاد الإسلامية أن تتوسّع إلى روسيا والنمسا.
باستثناء لبنان، حيث تنشط آزاد الإسلامية في عدة مدن، فإن هذه الفروع الأجنبية صغيرة. الأهم من ذلك، لم تستطع أيّ من فروع آزاد الإسلامية في الخارج رسم الصورة الراقية اللازمة لجذب ألمع الطلاب والنخب المحلية. هذا تحديداً ما يفرّق آزاد الإسلامية عن الجامعة الأمريكية في السليمانية.
في حين أعرب بعض المحللين عن قلقهم إزاء الوجود الإيراني المتوقع في العراق ولفتوا إلى أنّه قد يؤدي إلى تصعيد التوتر الطائفي، فإنّ آخرين، ولا سيما الإيرانيين، يعتقدون أنهم يساهمون في النهوض بقطاع التعليم العالي في العراق وتوفير أساس لتبادل المعرفة والأفكار. كلّ من الجانبين محقّ بعض الشيء.
مع ذلك، فمن غير المرجح أن يأخذ أي طرف خاص أو أجنبي على عاتقه إصلاح الأزمة التعليمية في العراق. في غياب قدرة الدولة على إنشاء مؤسسات ذات مصداقية وجودة في أسواق العمل المحلية، سيستمرّ الطلاب الأذكى والأغنى في العراق في مغادرة البلاد سعياً وراء مستقبل أفضل.