القاهرة — أصبح تراجع الواردات المصريّة حجراً أساسيّاً في سياسة مصر النقديّة والاقتصاديّة، وفي منح المؤسّسات الاقتصاديّة الثقة في قدرة مصر على سداد ديونها التي تراكمت منذ نهاية عام 2016 وبداية عام 2017، حيث توقّعت مؤسّسة "يولر هيرميس" الائتمانيّة، في تقرير لها في 3 تشرين الأوّل/أكتوبر، أنّ مصر أصبحت أكثر قدرة على سداد ديونها بسبب سياسة الإصلاح الاقتصاديّ، وتحرير سعر صرف الجنيه، ممّا أدّى إلى تراجع قيمته مقابل ارتفاع قيمة النقد الأجنبيّ، وبالتالي ارتفاع نفقات الاستيراد، ويؤدّي حاليّاً إلى تراجع واردات مصر وبالتالي تراجع عجز الميزان التجاريّ.
ما قالته "يولر هيرميس" ليس بعيداً عمّا يهتمّ المسؤولون المصريّون بإعلانه من حين إلى آخر، حيث أصدرت الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، التابعة إلى وزارة التجارة والصناعة، تقريراً في 23 أيلول/سبتمبر، جاء فيه أنّ واردات مصر غير البتروليّة تراجعت بنسبة 23% في الفترة من كانون الثاني/يناير إلى تمّوز/يوليو 2017 لتبلغ 30.3 مليار دولار مقابل 39.4 مليار دولار خلال الأشهر نفسها من العام الماضي.
وكشف وزير التجارة والصناعة طارق قابيل خلال كلمته في ندوة مجلس الأعمال المصريّ-الكنديّ في 28 أيلول/سبتمبر بفندق سميراميس إنتركونتنينتال بالقاهرة، أنّ عجز الميزان التجاريّ (الفارق بين الصادر والوارد إلى السوق المصريّة) تراجع خلال الستّة أشهر الأولى من عام 2017 بنسبة 50% مقابل الفترة نفسها في عام 2016، كما تتطوّر سياسة مصر في تخفيض ذلك العجز شهراً بعد آخر، حيث أعلن قابيل، في بيان رسميّ له في 29 أيلول/سبتمبر عن تراجع بنسبة 74% في إجمالي عجز الميزان التجاريّ لمصر خلال آب/أغسطس 2017 ليبلغ مليار و130 مليون دولار مقابل 4 مليارات و367 مليون دولار خلال آب/أغسطس 2016.
وتعليقاً على تراجع الواردات المصريّة وتراجع عجز الميزان التجاريّ، قال المستشار الاقتصاديّ والضريبيّ لعدد من المؤسّسات الاستثماريّة المصرية خالد الشافعي لـ"المونيتور": "بالطبع، تراجع الواردات وتحسّن الميزان التجاريّ هما خطوة إيجابيّة، لأنّ التقليل من الاستيراد يعني أنّ السوق سيبحث عن البديل المحلّيّ، ممّا يشجّع الصناعة الوطنيّة، كما يشجّع جذب المستثمرين الأجانب في مجال الصناعة، خصوصاً بعد قرار تحرير سعر الصرف الذي جعل أجور العمالة المصريّة أكثر تنافسيّة مقارنة بأيّ دولة أخرى، فبعدما كان مبلغ الـ200 دولار أو ما يساويه بالجنيه المصري، على سبيل المثال، راتباً شهريّاً لعامل واحد، أصبح المبلغ نفسه راتباً لعاملين".
ويذكر أنّ البنك المركزيّ المصريّ، اتّخذ قراراً في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بتحرير سعر صرف الجنيه المصريّ أمام العملات الأجنبيّة، ممّا أدّى إلى ارتفاع كبير في سعر النقد الأجنبيّ مقابل تراجع حادّ في سعر الجنيه المصريّ ليبلغ الدولار حوالى 17،60 جنيهاً بعدما كان سعره حوالى 8،83 جنيهاً، واتخذ البنك المركزي ذلك القرار تنفيذا لخطة الإصلاح الاقتصادي والاتجاه إلى السوق الحر المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي مقابل الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار على مدار 3 سنوات من الصندوق لدعم الاقتصاد المصري واحتياطي النقد الأجنبي بعد أن تراجع إلى درجة تهدد قدرة مصر على سداد ديونها.
وأضاف الشافعي: "نهضة الصناعة الوطنيّة وجذب رجال الصناعة الأجانب إلى مصر سيساهمان في تحوّل مصر إلى دولة صناعيّة قادرة على تصدير منتجاتها في شكل أكبر إذا تبنّى رجال الأعمال المصريّون والأجانب معايير للجودة لتؤهّل المنتج المصريّ إلى منافسة منتجات عالميّة في الأسواق الأجنبيّة".
من جهته، قال رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية رشاد عبده لـ"المونيتور": "مؤشّر تراجع الواردات وتحسّن الميزان التجاريّ إيجابيّ للغاية ويعني أنّ الاقتصاد المصريّ يمضي في الطريق السليم، لكن لا يمكن النظر إلى تراجع الواردات وتراجع عجز الميزان التجاريّ على أنّهما نتيجة لقرار تحرير سعر الصرف وارتفاع سعر النقد الأجنبيّ، وبالتبعيّة ارتفاع نفقات الاستيراد، فتراجع الواردات وتراجع عجز الميزان التجاريّ هما نتيجتان لمقدّمات عدّة أخرى".
وأضاف: "تراجع الواردات يأتي بفعل العديد من العوامل الموقّتة مثل فرض رسوم إغراق على بعض السلع ذات البديل المحلّيّ، مثل حديد التسليح، كما أنّ تحسّن الميزان التجاريّ يأتي بسبب عودة دعم السعوديّة لمصر بالموادّ البتروليّة بأسعار مخفّضة، بعدما توقّف تصديرها إلى مصر منذ تشرين الأوّل/أكتوبر 2016 وحتّى آذار/مارس 2017، وهذه إجراءات موقّتة ولا بدّ أن يستغلّ المصنّعون والمصدّرون المصريّون تلك الفترة الموقّتة للنهوض بصناعاتهم، فعلى سبيل المثال يتوجّب على مصنّعي حديد التسليح تعويض خسائرهم سريعاً وتثبيت أسعار منتجاتهم عند مستوى تنافسيّ مع المنتج المستورد".
ودعا عبده المصدّرين المصريّين والحكومة المصريّة إلى توسيع الأسواق المصريّة في الخارج، قائلاً: "تراجع عجز الميزان التجاريّ يأتي أيضاً بسبب عودة الصادرات المصريّة إلى مكانتها الطبيعيّة، بعدما رفعت روسيا والسعوديّة والسودان ولبنان والعديد من البلدان، حظر الاستيراد الذي فرضته على بعض المنتجات المصريّة في نهاية 2016 وبداية 2017، بسبب شائعات عن فساد تلك المنتجات، ولكن هذا لا يكفي، فلا بدّ أن يتبوّأ المنتج المصريّ مكانة أفضل، وهذا دور المصنّعين من خلال الحفاظ على الجودة ودور الدولة من خلال الاتّفاقيّات مع دول لم يدخلها المنتج المصريّ بقوّة، مثل دول الـ"فيشجراد" وبعض دول الـ"بريكس" والأسواق الأفريقيّة، وتربط الرئيس عبد الفتّاح السيسي بالعديد من تلك البلدان علاقات طيّبة".
وعلى النقيض، يرى المستشار الاقتصاديّ لعدد من المؤسّسات الاستثماريّة والمصرفيّة وائل النحّاس أنّ تراجع الواردات وتراجع العجز في الميزان التجاريّ ليسا مؤشّرين إيجابيّين وإنّما هما "مجرّد مسكّنات"، على حدّ تعبيره، حيث قال لـ"المونيتور": "العوامل كافّة التي أدّت إلى تراجع الواردات وقتيّة، حتّى عامل ارتفاع نفقات الاستيراد وقتيّ ومرتبط بسعر الدولار الذي سيظلّ يتراجع تدريجيّاً حتّى يتمكّن المستوردون من ممارسة الاستيراد بكثافة كما كان في السابق، لأنّ السوق المحلّيّ تنقصه العديد من المنتجات، وفي عديد من الأحيان لا يكون المنتج المحلّيّ قادراً على منافسة الأجنبيّ سواء على مستوى الجودة أم على مستوى السعر".
وكمثال على ما ذكره، قال النحّاس: "حديد التسليح على الرغم من جودة المصنوع منه محلّيّاً، فهو مرتفع الثمن مقارنة بالمستورد، على الرغم من السعر التنافسيّ للعمالة المصريّة، لأنّ العديد من مستلزمات صناعة الحديد مستوردة، أمّا أغلب الصادرات المصريّة فهي من الموادّ الخام، على الرغم من أنّ تصنيعها أو دخولها في مراحل الصناعة الأوّليّة قادر على رفع قيمتها عند التصدير"، ويذكر أن متوسط سعر حديد التسليح المصنوع محليا بلغ 10 آلاف و500 جنيه للطن قبل قرار فرض رسوم الإغراق بينما كان متوسط سعر الحديد المستورد 9 آلاف و500 جنيه للطن، وارتفع سعر الحديد المحلي بعد القرار نظرا لغياب المنافسة مع المستورد ليبلغ 12 ألف و200 جنيه للطن.
وقد تباينت آراء الخبراء، فمنهم من يرى في تراجع الواردات وتحسّن الميزان التجاريّ ظاهرتين موقّتتين، ومنهم من يرى أنّهما فرصة لتنمية الصناعة الوطنيّة حتّى وإن كانت وقتيّة، ويبدو أنّ التجربة وحدها هي القادرة على الحكم في الأيّام المقبلة.