تحت منارة الموصل المدمّرة، المعروفة باسم "الحدباء"، تقع أنقاض جامع النوري الكبير. بُني الجامع التاريخيّ قبل ثمانية قرون بمبادرة من الزعيم المسلم نور الدين زنكي الذي مهّد الطريق لصلاح الدين، مؤسّس الدولة الأيوبيّة، لمواجهة الصليبيّين والسيطرة على القدس بعد معركة حطين الحاسمة سنة 1187 – من خلال تغليب المذهب السنيّ على المذهب الشيعيّ.
في تلك الفترة، كانت أراضي المسلمين واقعة في أيدي الصليبيّين، وقياداتها ضعيفة ومنقسمة بين الخلافة العباثيّة في بغداد والخلافة الفاطميّة في القاهرة، بالإضافة إلى إمارات إسلاميّة صغيرة أخرى من الفرس إلى الموصل حتّى حلب. وقد بلغ الشرخ الشيعيّ السنيّ ذروته في تلك الفترة، واضطلع زنكي بدور مهمّ في إعادة القوّة إلى السنّة بهزيمة الإمارة الحمدانيّة الشيعيّة التي حكمت من الموصل إلى حلب في ما يُعرف اليوم بالعراق وسوريا.
لقد كانت الموصل مدينة ذات أهميّة جيوسياسيّة عبر التاريخ. فالمغول والتيموريّون والعثمانيّون والفرس جميعهم إمّا احتلّوا المدينة وإمّا حاولوا احتلالها في القرون السابقة. وتشتقّ كلمة "الموصل" من فعل "وصل"، ولهذا السبب ربّما وصف المؤرّخ والجغرافيّ العربيّ الشهير ياقوت الحموي الذي عاش في القرن الثاني عشر المدينة بأنّها "بوّابة العراق، ومفتاح خراسان، والطريق إلى أذربيجان".
فقد كتب الحموي في كتابه "معجم البلدان": "لطالما سمعتُ أنّ في العالم ثلاث مدن عظيمة: دمشق هي بوّابة الغرب، وناجبور هي بوّابة الشرق، والموصل هي الطريق من الشرق إلى الغرب".
تُعتبر هذه العناصر التاريخيّة كلّها أساسيّة لفهم سبب اختيار تنظيم الدولة الإسلاميّة ("داعش") لمدينة الموصل سنة 2014 وأهميّة تحرير المدينة اليوم. بالإضافة إلى ذلك، كان موقع المدينة مهمّاً جداً بالنسبة إلى قادة "داعش" في سياق مساعيهم لإعادة إحياء الصلة الحنينيّة بالتاريخ، التي اضطلعت بدور كبير في تعبئة الناس واستقطابهم.
فقد كان هدف "داعش"، بناء على مواقف زعمائه، إعادة إحياء أمجاد الإسلام، وزرع الأمل في نفوس الطبقات اليائسة في المجتمع، وتأمين أرض موعودة لأتباعه الذين يواجهون صعوبات في الاندماج في مجتمعاتهم... أي، باختصار، دولة حلم للذين يؤمنون بأهدافه المتعلّقة بدولة حلم وكابوس لجميع أعدائه.
وكان ذلك كافياً لإقناع الآلاف حول العالم بالتخلّي عن الرفاهية والاستقرار والألفة في ديارهم والانتقال إلى "دار الإسلام" – الأرض التي تقع فيها الخلافة – للقتال وممارسة الجهاد برفقة زوجاتهم وأولادهم، وباعتبار هذه الأرض بيتهم الجديد.
وبالنسبة إلى المجتمع الداعشيّ في الموصل وجوارها، قد يكون استيلاء القوّات العراقيّة على المدينة من جديد بمثابة سقوط "البيت" لكن ليس نهاية "حلم"، وانهيار دولة لكن ليس اقتلاع معتقد، وتدمير القاعدة لكن إحياء مقاربة مختلفة. ويرى هذا المجتمع أنّ الهزيمة، أيّاً كان اسمها، ليست نهاية "داعش". فمرحلة ما بعد "الدولة" يمكن أن تكون أكثر خطورة من الفترة التي كانت الدولة موجودة فيها، لأنّها تصبح اليوم فكرة من جديد، والأفكار لا تعرف حدوداً ولا قيود وهي قادرة على التنقّل من مكان إلى آخر. وينبغي طرح أسئلة كثيرة في هذا السياق: ما مصير الناس في الخلافة؟ هل يمكن أن يعودوا إلى المجتمعات التي تركوها وهل سيصبحون القنابل الموقوتة التالية في العالم؟
لقد أثبت الأشخاص الذين يتبعون طريق الجهاد على مرّ السنين أنّهم مثابرون ومستعدّون للمجازفة أكثر من مرّة من أجل الوصول إلى أهدافهم. والجدير بالذكر أنّ قادة "داعش" البارزين سُجنوا معاً في معسكر بوكا بالقرب من البصرة فيما أتى آخرون من سجن أبو غريب إلى غرب بغداد. وسُجن بعضهم أيضاً في معتقل غوانتانامو. وعندما أُطلق سراحهم، قرّروا أن يهاجروا من أجل القتال والموت في سوريا. ولم يتّخذوا قرارهم هذا لأنّ "داعش" يدفع مبالغ كبيرة ويقدّم إلى المنتسبين إلى صفوفه رزماً مربحة، بل انطلاقاً من الروح التي لا يمكن تفسيرها أو فهمها – التوق إلى الشعور بالقدرة على إحداث تغيير، المعتقد الذي يدفع الإنسان إلى التخلّي عن إنسانيّته من أجل قتل الناس لمجرّد أنّهم يفكّرون بطريقة مختلفة.
بسبب هؤلاء الأشخاص، يستحيل اجتثاث "داعش". فحتّى لو تغيّر اسم التنظيم، سيبحثون دائماً عن طريق مشابه، تماماً كما فعل الكثير من أعضاء "القاعدة" السابقين في العراق عندما وجدوا "داعش".
في كانون الأول/ديسمبر 2014، كنتُ في العراق أغطّي التطوّرات العسكريّة الأخيرة وأحضّر مقالاً طويلاً ووثائقيّاً عن زعيم "داعش"، أبو بكر البغدادي. في تلك الفترة، أتيح لي المجال لمقابلة أعضاء في "داعش" معتقلين من قبل الاستخبارات العراقيّة ووزارة الداخليّة. وكان الشرط الوحيد عدم تصويرهم.
وكان من بين الذين قابلتهم أبو هاجر العسافي، وهو قائد بارز في "داعش" يُعتقد أنّه عضو في القيادة العليا، وحسام ناجي شنين، وهو مفتي التنظيم في العراق، وصميم عبد الرحمن، وهو مساعد شخصيّ لوزير الحرب في "داعش"، أبو عبد الرحمن البيلاوي، الذي قُتل في حزيران/يونيو 2014. وكان الرجال الثلاثة معتقلين في سجون مختلفة في بغداد. لكنّ القاسم المشترك بينهم كان أنّهم جميعهم أعضاء سابقون في "القاعدة" وسُجنوا في السابق، ولم يفكّر أيّ منهم مرّتين عندما طُلب منهم تولّي منصب في "داعش". لقد سُجن أبو هاجر في سوريا والعراق مرّات متعدّدة، واعتُقل في سجن الفرع الفلسطينيّ الشهير في سوريا وذهب إلى معسكر بوكا، وهو معتقل أميركيّ بالقرب من البصرة. لكنّ ذلك لم يردعه عن فعل ما يلزم للمشاركة في الجهاد من أجل تحقيق أهدافه المتعلّقة بإرساء الأسس لـ "داعش".
أمّا الشيخ حسام فكان معتقلاً في معسكر بوكا بين العامين 2004 و2007، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البغدادي الذي سُجن بين العامين 2005 و2009. وعندما أُطلق سراح حسام، أتى إليه رفاقه السابقون ولم يفكّر مرّتين بشأن "تولّي مسؤوليّته" تحت راية "داعش". فذلك ليس خياراً بالنسبة إليه، بل واجب إلهيّ. فتوقّف عن الدراسة وتخلّى بالتالي عن شهادة الماجستير في الشريعة على الرغم من قناعته بأنّ مستقبله قد يكون أفضل إذا تابع دراسته.
أخبرني حسام في العام 2014 أنّ هزيمة "داعش" أو أيّ بدعة أخرى تتبنّى الأفكار نفسها لا يمكن أن تتحقّق بالسلاح وحده. وشرح لي أنّ الأشخاص الذين يتبعون هذا الفكر هم حالمون، وأنّ الوسيلة الوحيدة لوضع حدّ لتهوّرهم وروح المغامرة لديهم "هي بالاستجابة لمآسيهم وحاجاتهم، وباقتلاع أسباب انحرافهم، وبإنهاء الاحتلال وإعادة العزّة إلى المسلمين".
أمّا عبد الرحمن فقد كان المساعد الشخصيّ للبيلاوي وسائقه وساعي البريد لديه لأشهر عدّة. وبحسب عبد الرحمن، سُجن مرّات عدّة وخاض معارك كعضو في "القاعدة"، وأخيراً عندما بدأت الحرب تؤثّر على التنظيم، تنحّى جانباً وعمل مقاولاً مع أشقّائه – لكن ليس لفترة طويلة.
واستذكر عبد الرحمن كيف دبّرت مجموعة من الرجال اجتماعاً بينه وبين البيلاوي، من دون أن يكون على علم بأنّ البيلاوي هو وزير الحرب في "داعش". وقال لي عبد الرحمن: "طلب منّي أن أعمل لديه، وأن أدبّر له منزلاً بطابقين... وأساعده على التزوّج من امرأة جديدة. لم أكن أعلم من يكون، ولم تكن المرأة التي تزوّجها تعرف هويّته الحقيقيّة".
علم عبد الرحمن لاحقاً بأنّه يعمل لدى قائد في "داعش"، لكنّه لم يكتشف هويّة الرجل الحقيقيّة إلا عندما بثّت قناة "العربيّة" المموّلة من المملكة العربيّة السعوديّة صورة البيلاوي كاشفة عن اسمه ومنصبه. وسرعان ما شنّت القوّات العراقيّة غارة على المبنى الذي يقيم فيه الرجلان وعائلتاهما في 4 حزيران/يونيو 2014. فقُتل البيلاوي واعتُقل عبد الرحمن والآخرون.
سُجن عبد الرحمن وحسام وأبو هاجر في سجون مشدّدة الحراسة في العراق. في ذلك الوقت، كانوا ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام بهم لأنّهم رأوا في الموت أملهم الوحيد لإنهاء تعاستهم في السجن. لكن لو سنحت لهم الفرصة للهرب، أو تمّ العفو عنهم لسبب معيّن، هل ينضمّون إلى صفوف "داعش" مجدداً ويعرّضون أنفسهم من جديد لخطر الاعتقال؟ هل هم قادرون على مقاومة رغبتهم في المشاركة في النزاع من أجل إعادة بناء الخلافة المدمّرة؟ يعتقد الكثيرون خطأ أنّ أتباع "داعش" وفروعه هم مقاتلون يموتون من أجل حوريّات في السماء، لكنّهم في الواقع يقتلون أنفسهم من أجل تحقيق حلم على الأرض.