في ظلّ المشاكل المالية المتفاقمة المثيرة للقلق، عقد بنك تركيا المركزيّ ورشة عمل داخليّة مغلقة في 20 شباط/فبراير لمناقشة دين القطاع العينيّ بالعملات الأجنبيّة والمخاطر ذات الصلة، بحسب ما علم "المونيتور". وشدّدت وثيقة عُرضت في ورشة العمل وحصل "المونيتور" على نسخة منها من بيروقراطيّ رفيع المستوى شارك في الاجتماع على أنّ "خطر سعر الصرف الذي تواجهه شركات القطاع العينيّ كبير، والأساليب الوقائيّة الطبيعيّة والماليّة ضدّ هذا الخطر محدودة". وجاء في الوثيقة أنّ مجموع ديون القطاع العينيّ وصلت إلى 347 مليار دولار، أي حوالى 50% من الناتج المحليّ الإجماليّ.
من وقائع الاقتصاد التركيّ الهيكليّة أنّ الشركات الخاصّة لديها رأس مال سهميّ محدود، وتعتمد بشكل كبير على القروض الداخليّة والخارجيّة لمتابعة عمليّاتها. ويشير البنك المركزيّ إلى أنّ 208 مليارات دولار، أو 60% من عبء الدين الذي تتكبّده شركات القطاع العينيّ، ناجمة عن القروض بالعملات الأجنبيّة. إنّها مشكلة كبيرة نظراً إلى انخفاض قيمة الليرة التركيّة مقابل الدولار إلى حدّ كبير في الأشهر الماضية. وقد أصبح عبء الدين على الشركات أكثر ثقلاً لأنّ قيمة الدولار ارتفعت كثيراً.
ومن التفاصيل الملفتة في الوثيقة أنّ دين الشركات بالعملات الأجنبيّة تضاعف في أقلّ من عشرة سنوات. ففي العام 2009، بلغ صافي عجز الصرف الأجنبيّ للشركات 70 مليار دولار فقط، ثمّ ارتفع بنسبة 197% ووصل إلى 208 مليارات دولار حالياً. وليس معروفاً لماذا لم يتمّ تحذير الشركات من المجازفات الكبيرة التي قامت بها.
ويسلّط البنك المركزيّ الضوء أيضاً على التصنيف القطاعيّ للشركات المديونة بالعملات الأجنبيّة، مشيراً إلى أنّ 26% فقط من الدين يعود إلى قطاع التصنيع القادر على تصدير السلع وبالتالي كسب عملات أجنبيّة. وبلغت حصّة قطاع البناء والقطاع المكمّل له – العقارات – 20%، علماً أنّ قطاعي البناء والعقارات لديهما قدرة محدودة على كسب العملات الأجنبيّة. وفيما ازداد إنفاقها على السلع المستوردة كالآلات وموادّ البناء، لا تزال قيمة المبيعات العقاريّة للأجانب تبلغ مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار في السنة. بالتالي، فإنّ قطاعي البناء والعقارات هما، إلى جانب قطاع الطاقة، القطاعان الرئيسيّان اللذان يؤدّيان إلى تفاقم عجز الحساب الجاري في تركيا.
ولا يخفى على أحد أنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم سعى عن قصد إلى نموّ اقتصاديّ متمحور حول البناء. وكلّ من زار تركيا في السنوات الأخيرة لاحظ بوضوح طفرة البناء فيها. وقد شهدت اسطنبول بشكل خاصّ بناء عدد كبير من المجمّعات السكنيّة ومراكز الأعمال، بالإضافة إلى مشاريع بنى تحتيّة كطرقات وأنفاق وجسور – غالباً على حساب جمال المدينة ونسيجها التاريخيّ وإرثها الثقافيّ.
وقد حفّزت الوكالة الحكوميّة للتنمية السكنيّة (TOKI) الطفرة من خلال توفير الأراضي العامّة للمشاريع الجديدة، وتمّ منح شركات البناء قسماً كبيراً من القروض الخارجيّة والداخليّة، بالإضافة إلى "قروض سكنيّة" للمستهلكين. ووفقاً لاتّحاد المصارف التركيّة، شكّلت القروض السكنيّة 10% من مجموع القروض المصرفيّة في نهاية العام 2016، وخُصّص ما يقارب 12% منها لشركات البناء. لقد استفاد قطاع البناء إذاً من حوالى 22% من القروض، متجاوزاً قطاع التصنيع الذي بلغت حصّته 19%.
وفيما كان قطاع التصنيع يتلقّى تقريباً جميع العملات الأجنبيّة التي تكتسبها تركيا من خلال الصادرات، أصبح قطاع البناء مساهماً كبيراً في عجز الصرف الأجنبيّ، أو عجز الحساب الجاري، الذي يبلغ في بعض الأحيان 5 إلى 6% من الناتج الإجماليّ المحليّ. ومع أنّ هذا المنحى كان واضحاً وضوح النهار، إلا أنّ حكومة حزب العدالة والتنمية استمرّت في تفضيل البناء كمحرّك للاقتصاد، ما أدّى في نهاية المطاف إلى اقتراب القطاع من قطاع التصنيع في ما يتعلّق بالمساهمة في الناتج المحليّ الإجماليّ.
وبحسب الأرقام الرسميّة، ساهم قطاع التصنيع في 16,7% من الناتج المحليّ الإجماليّ سنة 2015، مقابل 17,1% سنة 2003، وهي السنة الأولى الكاملة لحزب العدالة والتنمية في السلطة. وشكّل قطاعا البناء والعقارات حوالى 15,8% من الناتج المحليّ الإجماليّ سنة 2015، مقابل 12,5% سنة 2003. بتعبير آخر، عجز قطاع التصنيع عن المحافظة على حصّته من الناتج المحليّ الإجماليّ أو زيادتها في عهد حزب العدالة والتنمية فيما نجح قطاعا البناء والعقارات في زيادة حصّتهما بمعدّل 3,3 نقاط مئويّة، فأصبحا شبه متساويين مع قطاع لطالما كان العمود الفقريّ للاقتصاد.
لكنّ قطاع البناء يلبّي حاجات السوق المحليّة، وبالتالي فإنّ مساهمته صغيرة في ما يتعلّق بمكتسبات العملات الأجنبيّة. بالإضافة إلى ذلك، سحبت طفرة البناء موارد قيّمة من القطاعات الصناعيّة، خصوصاً في اسطنبول، مركز الصناعة في تركيا، وأدّت في الوقت نفسه إلى تعميق التفاوتات بين المناطق. والآن، مع تزايد مشاكل البلاد المرتبطة بالسعر الأجنبيّ، يبدو أنّ حزب العدالة والتنمية علق في مأزق ماليّ.
وتجدر الإشارة إلى أنّ طفرة البناء مدفوعة بمشاريع سكنيّة وأيضاً بما يسمّى "المشاريع الضخمة" – البنى التحتيّة واسعة النطاق كالمطارات والجسور والطرقات والمجمّعات الاستشفائيّة التي تُبنى بالشراكة مع شركات محليّة وأجنبيّة منحتها الخزينة ضمانات خاصّة بالقروض وحجم الأعمال. وأدّت هذه الاستثمارات الطموحة بدورها إلى إضعاف الاقتصاد من خلال إنفاق العملات الأجنبيّة وعدم توليدها. وأشار المصرف المركزيّ إلى أنّ الشركات المشاركة في هذه المشاريع تسجّل أكبر عجز في الصرف الأجنبيّ.
وطوال سنوات، استفادت طفرة البناء التي سعى إليها حزب العدالة والتنمية من ظروف اقتصاديّة مؤاتية، على الصعيدين المحليّ والعالميّ، تمثّلت بتدفّقات ضخمة للرساميل الأجنبيّة ورخص الدولار. وتُرجمت المشاريع المذهلة، وفرص العمل المستحدثة للعمالة الماهرة وغير الماهرة على حدّ سواء، ونفاذ المستهلكين السهل إلى القروض إلى دعم شعبيّ لحزب العدالة والتنمية، ما ساعده على الفوز في الانتخابات بشكل متتالٍ. بالإضافة إلى ذلك، تمكّن الحزب من تحقيق – إلى حدّ ما – هدفه القاضي بإنشاء برجوازيّة خاصّة به، وهي اليوم عبارة عن مجتمع متجذّر في البناء. وكان قطاع البناء ملائماً لذلك بما أنّه يعتمد بشكل كبير على عمليّة صنع القرار الحكوميّة على الصعيدين المحليّ والمركزيّ. وبما أنّ الحزب يحكم سيطرته على العمليّات، كتصاريح التقسيم إلى مناطق ورخص البناء وتخصيص الأراضي واختيار الشركات في المناقصات العامّة، فقد استغلّ البناء كوسيلة لتحقيق أهدافه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الزخم المتعلّق بمشاريع البناء استند إلى بعض الضروريّات الموضوعيّة. فابتداء من العام 2000، برز عجز كبير في المساكن والبنى التحتيّة في المدن بعد تدفّق ملايين النازحين من المناطق الريفيّة. وكانت غالبيّة المساكن في المدن قديمة ودون المستوى، ما استدعى الحاجة إلى مشاريع بناء جديدة.
لكن أثناء توجيه موارد تركيا المحدودة نحو قطاع البناء، تجاهل حزب العدالة والتنمية القطاع وقدرته على كسب العملات الأجنبيّة من خلال الصادرات، فارتكب أكبر غلطة على الإطلاق. وكان ما فعله في الواقع خياراً واعياً مدفوعاً بأهداف سياسيّة. وقد ولّد لفترة من الوقت النتائج المرجوّة – لكن ليس من دون ثمن. فالثمن الأكبر الذي تدفعه تركيا اليوم هو مشكلة صرف أجنبيّ وديون هائلة. وينازع الحزب لإيجاد مخرج من هذه الأزمة، لكنّ ما ظهر حتّى الآن هو جزء صغير من الثمن الفعليّ.